يثير الفاعلون السياسيون في تونس هذه الأيام غبارا كثيرا وضجيجا أكثر لعل بعض فعلهم الذي تنكره الجماهير يمر وسط هذا الغبار الكثيف الذي عم أرجاء المدينة، ولعل أكثر الغبار الواجب قشعه عن ساحة الثورة هذه الدعوات لممارسة العنف وممارسته الفعلية بدعوى حماية الحريات ومقاومة الاستبداد المفترض، وهي دعوات من اغرب ما يقف عليه الباحث في الفكر السياسي وفي تاريخ المجتمعات إذ أنها تستبدل عنفا مفترضا بعنف معيش كما أنها تصدر عن فاعلين أوجعوا رؤوسنا بالتنظير للديمقراطية والحرية واحترام صناديق الاقتراع. نقف في هذا المقال على عينة من هذه الدعوات كان آخرها الاتكاء على حادثة مزعومة بتدنيس قبر الطاهر الحداد ، وهي حادثة لها أبعاد متعددة أولها غياب البعد الأخلاقي في الممارسة السياسية لهؤلاء الذين يدعون حرصهم على التجربة الديمقراطية الوليدة في البلاد إذ الديمقراطية تحتاج إلى قيم تحكمها وتحول دون الانحراف بالتجربة إلى ما لا يحمد عقباه ، وإذا كان الفاعلون في التجربة يؤسسون فعلهم على الكذب والخداع واختلاق المعارك والقضايا الوهمية فانه لا يمكن للتجربة أن تتقدم لأننا سنكون بإزاء فريقين فريق «كذاب» يتحرى الكذب في الفعل السياسي وبالتالي يعزل من الجماهير التي ستتوجس منه خيفة وفريق ترسم له صورة «الصادق» وان لم يكنها وبالتالي سيمتنع عن المحاسبة والمراقبة لاشعوريا بما انه دائما ينظر إليه في مقابل الكذابين وهنا مكن الخطر على التجربة البعد الآخر لحادثة تدنيس قبر الطاهر الحداد بعد فكري يتعلق بالمرجعية فالذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها حول الحادثة الموهومة يتجاهلون حقيقة أن الطاهر الحداد زيتوني اجتهد من داخل النسق وليس حداثيا كما يفهمون هم الحداثة ( وهو فهم محل نقاش كبير) وهنا إما أن يكونوا من الذين يحاولون البحث عن مرجعية لهم تؤصل مواقفهم لدى جماهير تنظر إليهم على أنهم معادين لهويتهم أو أنهم فعلا يؤمنون بالنسق الذي اجتهد من داخله الطاهر الحداد وفي الحالتين نحن إزاء حالة انفصام يعاني منها هؤلاء تجعلهم كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى وتزيد من عزلتهم وبالتالي يدفع نحو الانفراد بالمشهد لصالح طرف معين ليس هناك ما يضمن زيغه نحو الاستبداد من الأبعاد الخطرة الأخرى لهذه الكذبة أنها تعمق حالة الاحتراب بين مختلف الفاعلين ، وهي حالة احتراب قائمة فعلا ولكنها في عالم افتراضي بعيد عن القضايا الحقيقية للشعب ومن شأن اللجوء إلى اختلاق قضايا أخرى تعمق هذه الحالة أن يزيد من عمق الهوة بين الفريقين المكونين للحياة المدنية في بلادنا،وقد تتحول إلى حالة حرب واقعية إذا تجاوزت الاحتراب النظري إلى الممارسة مثلما شهدته كلية الاداب بسوسة مؤخرا من محاولة قتل لطالب من قيادات الاتحاد العام التونسي للطلبة من قبل مخالفين له في الرأي مازالوا لم يقبلوا بعد بقيم التعايش مع المختلف أو بالأحرى مازالوا لم يتحرروا بعد من عوائق الايديولوجيا التي امنوا بها في ستينات القرن الماضي عينة أخرى تدلل على خطورة استعمال الكذب في العمل السياسي هي ما راج أخيرا من حديث لعض السياسيين ممن يقولون أنهم ضحايا النظامين البورقيبي والبنعلي عن تنازلهم عن حقهم في التعويض عما اقترف في حقهم كان يمكن أن نقبل بهذه «التضحية» لو قيلت في غير السياق الذي قيلت فيه أو قيلت منذ قيام الثورة مثلا إما أن تقال في سياق الرد على إصرار طرف متضرر من النظامين على حقه في التعويض فهذا ما يطرح الشك في صدق هذه التضحية المزعومة من هؤلاء المناضلين الذين نسوا أنهم طالبوا قبيل الثورة وبعيدها بالعفو التشريعي العام وما يتضمنه من تعويض مادي ومعنوي فهل قصرت ذاكرتهم إلى هذه الدرجة حين خيل إليهم أن خصمهم سيكون المستفيد الأكبر من هذا التعويض وهي نظرة تنم عن قصور نظر رهيب في الرؤية الحقوقية أم أن المزايدة السياسية أفقدتهم التوازن حتى ادعوا ما ليس لهم فيه حق وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فهل نسي هؤلاء المتنازلين أن نظام دولة الاستقلال لم ينكل بهم مثل ما نكل بالإسلاميين وانه مكن بعضهم من السفر للعلاج على حساب الدولة التونسية وانه ارجع بعضهم إلى سالف عمله وان كثيرا منهم واصلوا دراستهم وتمكنوا من تقلد مناصب هامة سواء في الدولة أو الوظيفة العمومية وأنهم الآن ينعمون بهذا السكوت المحسوب أو الاستقطاب الناعم الذي كانت تمارسه معهم دولة الاستقلال في مقابل التضييق على خصومهم حد الجوع أو حد تجاوز خط الفقر إن محاولة اختلاق القيم من اجل التأثير في الفعل السياسي اليومي يضر بأصحابه أكثر مما يضر بالمستهدفين منه لان هؤلاء المستهدفين لن يتنازلوا عن حق تفرضه لهم كل الشرائع والأعراف والتقاليد ولا منة لأحد عليهم فيه كما أن كل تجارب الانتقال الديمقراطي السابقة لتجربتنا مضت فيه وكرسته ثم إن له أبعادا اخطر على قيم التعايش والحياة المدنية لبلادنا لعل أخطرها طرح التساؤل عمن يستحق صفة ضحية الاستبداد وهو سؤال له ما بعده إذا أصر المختلقون لهذه القضايا الوهمية على التمسك بتدنيس القيم الأخلاقية للفعل المدني من اجل حسابات حزبية ضيقة سمير ساسي