دعوة الأحزاب السياسية إلى عدم تحويل أنشطتها الثقافية بالجهات لحملات تعبوية تدعو أغلب الشعارات التي يرفعها المشتغلون بالحقل الثقافي في تونس - بعد الثورة - إلى الحد من المركزية الثقافية والعمل على توزيع برمجة عادلة بين مختلف الجهات والرفع من الدعم الموجه للمناطق الداخلية إضافة إلى ضرورة انحياز دور الثقافة للعمل الفكري والفني دون الخوض في المجال السياسي لصالح طرف دون الآخر... سلطة الإشراف بدورها تقول وتكرّر أنها تساند فكرة لا مركزية الثقافة وتسعى لتحقيقها غير أن هذه الشعارات وإلى اليوم لم تتجاوز مستوى القول والخطابة إلى مستوى الفعل بل على العكس فهناك مؤشرات تقول بأن الوضع ربما أصبح أسوأ. بعض المهرجانات بالجهات اضطرت لتخفيض ميزانياتها وأخرى ألغيت أو أجلت إلى أجل غير مسمى. «الصباح» رصدت مواقف بعض المهتمين بالأمر وخاصة مديري عدد من المركبات الثقافية ومنسقي التظاهرات الفنية في الجهات حتى نقف على الصعوبات والعراقيل التي يعيشونها يوميا وكيفية تطوير هذا القطاع الذي يعد من ركائز المجتمع وتنميته. في هذا السياق شدد مدير المركز الثقافي نيابوليس بنابل السيد الطاهر العجرودي على أهمية التكوين في برامج الفضاءات الثقافية مضيفا أن التأسيس في العمق يتطلب العمل على ترسيخ الثقافة التي تدعو للمواطنة باعتبارها جزء من مكونات التنمية في البلاد على غرار الاقتصاد وبالتالي مطروح اليوم على وزارة الثقافة تطوير هذه الفضاءات إلى مراكز نموذجية تعنى بالتكوين والتوعية الفنية والفكرية للفئة الفتية من المجتمع. وأشار من جهة أخرى إلى أن جل التظاهرات المنظمة على سبيل المثال في المركز الثقافي بنيابوليس يشرف عليها أبناء هذا الفضاء من خريجي المسرح والسينما والفنون التشكيلية وغيرها من الاختصاصات الثقافية والفنية واصفا «نيابوليس» بالمشروع الفكري الجماعي والقائم على الجدل والتفاعل بين مختلف أطرافه. وعن هامش الحرية المكفول للعمل الثقافي في السابق أو في الفترة الراهنة بين السيد طاهر العجرودي أنه يؤمن ب»شعرة معاوية» وهي السياسة التي مكنته من التعامل مع السلطة السابقة والحالية دون أن يفقد مشروعه خصوصياته قائلا:» اعتبرت دوما السلطة محاورا عن طريق البرامج ومع ذلك لا أنفي أني تعرضت للضغوط والهرسلة وقطع الدعم أحيانا ودفعنا ضريبة هذا الخيار ومع ذلك حافظنا على شعارنا وهو الدفاع عن ثقافة المواطنة واستقبلنا على سبيل الذكر المفكر هشام جعيد سنة 2006 رغم كل الأصوات المستنكرة والمنادية بمنع هذا النشاط الثقافي.» وعن الصعوبات التي تواجه نشاط نيابوليس الثقافي أكد السيد طاهر العجرودي أنه نفذ البعض من المشاريع الثقافية التي خطط لها منذ قدومه لهذا الفضاء وكانت رائحة الأسمنت وبقايا عملية البناء منتشرة في المكان وفق وصفه وواصل يقول: أن ما وصلنا له اليوم يعتبر خطوة كبيرة ولكننا نصبو للمزيد لأننا أصحاب مشروع فكري ولسنا مجرد موظفين في قطاع التنشيط الثقافي. غير أن محدّثنا لم يخف وهو منسق تظاهرة لقاء نابل للسينما العربية أن الدورة الثانية من هذا المهرجان الذي نظمت من 4 إلى 12 ماي الحالي تسبّبت في تراكم ديون المركز الثقافي نيابوليس ممّا سيؤثر على النشاط اليومي للفضاء بقية السنة ومع ذلك فإنه يقول : «لن تتعارض هذه الصعوبات مع شعورنا بنجاحها و بأننا قدمنا بضاعة غير مغشوشة وقابلة للاستهلاك الوجداني والفكري كما أن وزير الثقافة وعد بإدراج هذه التظاهرة ضمن المهرجانات المدعمة من قبل الوزارة بعد أن أدرك جدية برامجها ومنحنا هذا الموسم 20 دعم يقدر بألف دينار.» جديةالبرمجة هي الحل المسرحي حسام الغريبي الذي كان من بين المشرفين على سير تظاهرة المسرح المؤنث بالمهدية التي انتظمت في بداية ماي الحالي، طالب خلال حديثه معنا حول مسألة الحد من المركزية الثقافية بالاهتمام أكثر بمنطقة المهدية وقال في هذا السياق: «نحن في حاجة لإنشاء مركز للفنون الركحية بالجهة خاصة أن منطقة الساحل (سوسة والمنستير والمهدية) لا يوجد فيها فضاء للفنون الركحية رغم أن المهدية بصفة خاصة تتميز بعراقة اهتماماتها المسرحية إذ كانت قدمت عديد الأعمال ضمن فرقتها الجهوية التي وقع حلها ولم تعوض إلى اليوم بفضاء آخر قادر على استيعاب مواهبها». غياب الأنشطة الثقافية الجادة في جهته القصرين كانت النقطة التي تمحور حولها حديثنا مع عدنان الهلالي مدير «ربيع سبيطلة الدولي»فقد بين في هذا الإطار أن الاستراتيجية المعتمدة في إنشاء المهرجانات والإعداد لبرمجتها في حاجة لمراجعة عميقة مشيرا إلى أن تنشيط الجهات ثقافيا ليس بإعلان عن «اليوم الروماني» في سبيطلة - الذي رفضه أهل الثقافة في القصرين لعدم جدوى برمجته- ومهرجان صوفي في القيروان وبرمجة أسماء ورفض أخرى واصفا هذه الخيارات بالمتسرعة قائلا: «كان من الممكن توجيه برمجة مهرجان قرطاج للجانب السياحي لأنه يرسم صورة عن بلادنا ويساهم في جذب السياح وتترك إدارته لوزارة السياحة فيما تهتم سلطة الإشراف على المؤسسات الثقافية بتنظيم مهرجانات في كامل البلاد تسعى لتثقيف المواطن و ترسخ هويته.» وانتقد عدنان الهلالي توزيع الدعم من قبل وزارة الثقافة من منطلق أن أهم جزء منه يقدم لدور الثقافة بالعاصمة لقربها إعلاميا ومكانيا من السلطة فيما تهمش باقي الجهات رغم أن نسبة الجمهور الذي يتردد على عروض المسرح في المناطق الداخلية أكثر من عدد روّاد الفن الرابع بالعاصمة على غرار إحدى عروض سبيطلة التي تجاوزت 400 متفرج. وشدد عدنان الهلالي على أن الاستراتجية الجادة في البرمجة والقائمة على أسس عميقة قادرة على إنجاح التظاهرات الفنية والثقافية حتى ولو لم توفر ميزانية كبيرة وفي هذا الإطار ذكر حفل افتتاح الدورة الثانية عشرة من مهرجان ربيع سبيطلة الدولي الذي يشرف عليه حيث لم يكلفه أكثر من 360 دينار أجر فرقة عرض «أزهار الغبار» القادمة من مخيّم الشوشة حاملة معاناة فنانين لاجئين منذ أكثر من عام ونصف ببلادنا وكانوا بحق نجوم السهرة لصدق فنهم على عكس عديد الفنانين المبرمجين في مهرجانات بالملايين ولا يقدمون إلا الخواء... الحذر من الدعاية السياسية من جهته اعتبر محمد المداني جقيريم مدير المركب الثقافي بالمنستير أن البرمجة بالمؤسسات الثقافية تخضع في الغالب إلى اختيارات ومبادرات فردية تنطلق من رصد لخصائص مكونات المحيط بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لصياغة مناهج عمل تستجيب له وتتفاعل معه في حدود الإمكانيات المتاحة ذلك أن غياب سياسة ثقافية واضحة المعالم منذ عقود أثر على فاعلية الهياكل الثقافية وأوصلها إلى الأداء المنمط أحيانا والمرتجل في كثير من الحالات وبين مصدرنا أن تجربة المركب الثقافي بالمنستير تحاول وضع برمجة ثقافية مدروسة ترتكز على التظاهرات والمحطات الثقافية القارة وإنشاء تظاهرات مختصة على غرار الملتقى الوطني للفنانات العصاميات والذي كان حافزا أساسيا لبعث جمعيات ثقافية مختصة كجمعية الفنون الجميلة بالمنستير. وكشف محمد المداني جقيريم أن البرمجة تبقى مرتبطة دوما بقيمة الدعم خاصة وأن العروض الجماهيرية تتطلب مبالغ هامة تتراوح عادة بين 3 آلاف دينار و7 آلاف دينار على غرار «التونسي. كوم» و»صنع في تونس « للطفي العبدلي و»مونولوغ السبسي»لفؤاد اليتيم و»خويا ليبر» لجمال الميداني وعروض «بندرمان» و»بديعة» وغيرها. وحذر مدير المركز الثقافي بالمنستير في حديثه إلينا من تداخل العمل الثقافي بالسياسي وضرورة الوعي بمحاولات الاحتواء الممارسة على دور الثقافة منذ العهد البائد خاصة أن الثورة خلفت أشكالا جديدة من الاستقطاب خاصة أنها الفضاء العمومي الوحيد القادر في أغلب الأحيان على احتضان مختلف أنشطة الأحزاب السياسية قائلا: «رغم ما ورد بالمنشور الوزاري عدد 10 بتاريخ 30 مارس 2011 من توضيح لصيغ التعامل مع الأحزاب السياسية فقد واجهتنا العديد من الصعوبات في تطبيقه باعتبار اللبس الوارد فيه والمتعلق أساسا بعدم إلتزام الأحزاب بالبرنامج الثقافي المعلن وتحويل وجهة نشاطهم إلى دعاية سياسية صرفة». واعتبر نفس المتحدث أن حيادية العمل الثقافي أصبحت أصعب بعد الثورة مع حضور أكثر من طرف سياسي إلى جانب نقص في البنية التحتية للمؤسسات الثقافية وحاجتها لمواكبة التطورات في مجال الفنون على غرار التقنيات السينمائية. إن متابعتنا للتظاهرات الثقافية بعد الثورة في أكثر من منطقة بالبلاد جعلتنا وعلى خلاف المعتقد والسائد نقف على مدى شغف وتعطش أهالي المناطق الداخلية وخصوصا شبابها لكل أنواع الفنون غير أن هذا الشغف والتعطش عادة ما يصطدم بافتقار المركز الثقافية إن كانت موجودة - بالجهات إلى الامكانيات وغياب التجهيزات الضرورية لتأمين الانتاجات السمعية البصرية خاصة أن الشباب التونسي جد مواكب للتطورات التكنولوجية ممّا يجعله يشعر بالملل في هذه الفضاءات ويهدد بالعزوف عنها.