بقلم: مصطفى الفيلالي* جمع غفير من المواطنين يتساءلون ويسألون، حيارى مشفقين: هل بقيت لنا بأرضنا دولة مسؤولة ذات مهابة وسلطان. وهل حفظت الثورة لهذه الدولة حرمة يرعاها نظام قويم، أم هل بقيت للنظام رموز ذات دلالة وجلال، وهل لا تزال ترعى الأنفس وتصون الأرزاق سلطة تنفرد بصنع القرار، وتضطلع بالمسؤولية وتتسلح بالعزم. في نفر غير قليل من جيل الأوائل غدونا ننظر مدهوشين إلى عاصمتنا التاريخية المجيدة، بنت مدينة الرسول الكريم، تتد ثّر أسوارها بسواد رايات دخيلة نكرة. يا للهول. لأول مرة منذ 1837 تغيب عن آفاق تونس، فوق أسوار جامع عقبة حمرة النجم والهلال، ينزل بالأنفس من تغييبه المتعمد زلزال بدعة لم نعرف مثلها حتى في عهد النصارى وسلطة الاستعمار البغيض. أخي المواطن، متى كان إسلامنا أسود الناصية، أغبر الملامح معقودا بلحية وقميص، وهو لم يزل يشع في الأنفس بنور الهداية، وفي أي الأيام من عمر هذا المجتمع المتفتح حكمنا على أختنا أن تكنس الشارع بأذيال جلبابها المرسل وأن تواري ملامحها وراء برقع نكير وأن تغيّب يديها في قفاز سخين. بل في أي فترة من تاريخ إفريقيا كان ديننا المتسامح متخاصما مع التدين، يدبر بنا عن آفاق المستقبل، ويحجب في الأنفس فجر «الأمل الفسيح» ويحملنا على الخروج من مسيرة الزمان والانزواء عن ركب المعاصرة. أخي عالم الزيتونة ورائد «النهضة» السياسية، أليست لشرعنا مقاصد أقامت عليها الحكمة الربانية معقولية التكليف، ألم يجمع ساداتنا الفقهاء أنّ مناط هذه المقاصد إنما هو، اليوم كما كان في عهد السلف الصالح، حفظ المصالح والضروريات الأساسية ودرء المضار والمفاسد. فما هي مقاصد الشرع الجديد الذي نطالب باتباعه، وهل في تلك المقاصد حفظ لمصالح المجتمع التونسي الأعزل الفقير المتحفز الذي ننتمي إليه ونحاول أن نقتسم له بقعة صغيرة في حلبة التنازع بين عمالقة الثراء والاقتدار والتقدم والبطش. بالاعتزال السياسي و بالأصولية الصارمة والمذهبية المحايدة نضمن لديننا التجذر في الأنفس، ونوطن شبابنا على العزة بالإيمان، ونكفل لشعبنا كرامة الاكتفاء والنجاة من الخصاصة والحرمان. مئات الآلاف من أبنائنا العاطلين عن الكسب الحلال، هل بالدعوات الصالحة وحدها يتيسر لنا تمويل الاستثمار لإنشاء المؤسسات المربحة وامتصاص البطالة. جهاتنا القابعة منذ أحقاب في الإقصاء والتهميش هل بدعاء الابتهال ننتشل أهلها من الخصاصة ونطفئ في نفوس شبابنا جمرة الغضب، ونمكّن لهم أسباب العيش الكريم. ما بالنا تصرفنا عن هذه الضرورات الوجودية مشاغل غير ذات استعجال على ما لها من أهمية، ونبذر طاقات الصبر الطويل في صفوف أهلنا، ونسفّه الكثير من أحلام الثورة. ألم يكن الإمام مالك، إذا رفعت بين يديه قضية نظرية يجيب بقوله المشهور «دعها حتى تقع». فمتى سقط إسلامنا في الزيغ حتى نستحق التأثيم والجرح، ومتى خرج شعبنا عن شعاب الإيمان. وهي كثيرة «أعلاها الشهادة وأدناها إماطة الأذى عن الطريق». كما قال الرّسول الكريم، حتى يتعجّل بنا الإصلاح والتكفير نفر من شبابنا الملتحين، لا ندري من أجازهم الانتصاب لتفتيش الضمائر، و أباح لهم استهلال زمن الإكراه في الدين. الدولة أضحت اليوم شرعيتها مهدورة، ورموزها مستباحة، وهيبتها مجحودة، و أمنها متناوب وعدلها مشغول. وبات أهل القرار في الدولة، رئيسا وحكومة ونوابا، كالمكبلين بلا سلطان رادع ولا عزم حافز، يشهدون منظومة الاستباحة لمقومات الدولة، من منوبة إلى سجنان إلى سوسة وصفاقس، منظومة متواصلة مترابطة، فيستخفون ويجنحون إلى الحوار مع مرتكبيها، ولا يهبون إلى إنقاذ المكاسب الغالية، متناسين أنها أقدس أمانة في الضمائر وأعلى مسؤولية وطنية سعوا جميعا إلى حملها، وخولتهم الاضطلاع بأوزارها انتخابات القاعدة الشعبية. مناضل وطني ومن مؤسّسي الدولة الحديثة