بقلم : محجوب لطفى بلهادى * قد لا يبوح يوم 14 جانفي 2011 بكامل أسراره في المنظور القريب ليظل أحد الملفات الحساسة للدولة التي قد يكشف عنها يوما ما بالتّقادم، إلاّ أنه بمنطق الاستقراء الاستشرافي يمثل هذا اليوم منعطفا تاريخيا حاسما وضع الجميع -نخبة وعامة- في مواجهة غير مسبوقة لتيار جارف من الآمال الأفلاطونية في مدينة فاضلة وشيكة التحقق، ولسيل يكاد لا ينتهي من التعبيرات الاحتجاجية السلمية منها والمتوّحشة ومن المشاريع المجتمعية بتضاريس جديدة لم نألفها من قبل... فكان بمثابة صك ّميلاد -على الشياع- لانبعاث أحلام وكوابيس متعددة يمكن اختزال منسوبها السياسي في ثلاثة مستويات : مستوى من « المنسوب السياسي الطوفاني « مباشرة اثر يوم 14 جانفي 2011 ، مرحلة شهدت طفرة من الأحزاب والجمعيات عكست حالة من الحراك المجتمعي بجرعات عالية بعد تصحّر وانجراد في ممارسة حق التعبير والتنظم استغرق أكثر من خمسة عقود كاملة... مستوى من « إنخفاض المنسوب السياسي الجارف « الذي تزامن مع انتخابات 23 اكتوبر2011 ، على قاعدته تشكّلت أوّل خارطة سياسية تعددية أعادت ترتيب مختلف القوى وفق أحجامها الانتخابية الحقيقية، وكشفت عن اختلال نوعى في التوازن بين تيار سياسي له مرجعية إسلامية قوي شديد الانضباط، يقوده تيار مستنير ينزع في أدبياته إلى خطّ تجربة تونسية رائدة في الإسلام السياسي المتفتح، وكيانات سياسية متفاوتة الحجم الانتخابي منها من اختار التموقع المكوكي حول مركز الثقل السياسي الكبير الذي تمثّله حركة النهضة وتشكيلات أخرى ارتأت التحصّن داخل المجلس التأسيسي إلى حين إشعار آخر!!... مستوى من «استقرار المنسوب السياسي في مستويات محددة» التي انطلقت بمأسسة الأهرامات السياسية الكبرى لأيّ ديمقراطية ناشئة - من مجلس تأسيسي ورئاسة جمهورية وتشكيل حكومة - فخرج علينا ائتلاف حكومي ثلاثي تشكّل النهضة قاعدته الصلبة والمؤتمر من اجل الجمهورية والتكتل أضلاعه الضعيفة الباحثة عن التوازن، و»معارضة» في معارضة داخلية شديدة مع قواعدها، تتحرك في أفق سياسي جدّ متغير بشيكات مجتمعية دون رصيد مع بروز لاعبين جدد متعدّدي الوسائط والإيقونات في حفلة تنكّرية كبرى منها السلفي الماضوي والإصلاحي-الدستوري والمقاول السياسي ... أين نحن اليوم ؟ فالمتتبع للعملية السياسية يقف عند العديد من الملاحظات يتداخل فيها السياسي بالاقتصادي/الاجتماعي: بداية تحرّك حكومي في جميع الاتجاهات بحزمة من المشاريع التنموية مع تسجيل انفراج ملحوظ في بعض المؤشرات الاقتصادية ... توظيف سياسوى منفّر وخطير للمقاربات والمناهج الإحصائية الاقتصادية وما تفرزه من أرقام في نطاق الإعداد المبكر للانتخابات المقبلة على قاعدة سابقيه الإضمار والترصّد!! تراجع للأسهم الاعتبارية للدولة في مواجهة ظاهرة العنف عموما والعنف العقائدي والسياسي على وجه الخصوص ... بداية تفكّك العديد من الكيانات السياسية المعروفة تقليديا بتماسكها، فالمؤتمر من اجل الجمهورية والتكتل دفعا ثمنا باهظا لتخلفهما عن القيام بدور الشريك الكامل داخل الترويكا، في حين أنّ نرجسية بعض القيادات التاريخية المتنفّذة داخل الحزب الديمقراطي التقدمي فوّتت للمرة الألف عن الحزب فرصة لعب دور ريادي في المشهد السياسي الراهن فكانت النتيجة تصدّعا داخليا وهروبا إلى الأمام من خلال تسويق خطاب «توحيدوي» غير مقنع مع باقي القوى الوسطية والديمقراطية !! استمرار المجتمع المدني في لعب دور إعادة التوازن السياسي في المعادلة العامة للبلاد بالوكالة عن باقي الأحزاب السياسية !! وما قد ينطوي عنه استمرار هذا الوضع الشاذ من خلط للأوراق والأدوار ومن احتمالات الوقوع في منزلقات خطيرة... رحلة البحث المضنية، غير المضمونة النتائج للعديد من الوجوه السياسية المخضرمة وغيرها لاستعادة مراكز ومواقع نفوذ سابقة من خلال استحضار الماضي -خاصة المرحلة البورقيبية- بطريقة انتقائية ومسقطة... ظهور على السطح لقوى سلفية متعددة الروافد، أخطبوطية البناء، تراوح بين التّمترس داخل العمل الجمعياتي الدعوي وممارسة العنف العلني المباشر، تجيد لعبة الاحتراق بالنار في إطار صراعها الخفي مع باقي القوى للاستئثار بالرأس المال الرمزي الذي يمثله الدين الإسلامي السمح داخل كل فرد منا... توجّه رسمي معلن بعناوين مختلفة نحو استيعاب جزء من القوى السلفية داخل العملية السياسية، محاولات أثارت توجس العديد على ما قد تنطوي عليه من مخاطر منها انقلاب السحر على الساحر... إلى أين نحن ماضون ؟ إلى إعادة إنتاج نظام القطبية السياسية الواحدة وما تعنيه من نزوع للانفراد بالرأي ثم التدحرج نحو الشمولية أم أن الدينامية السياسية التي تعتمل داخل رحم مجتمعنا قادرة على إعادة التوازن داخل المشهد السياسي بمعايير الفيزياء السياسية ؟؟ الإجابة لا تحتاج إطلاقا إلى قراءة للكف، فباستنطاق آليات الحراك السياسي والاجتماعي والمدني والتحالفات التي تنسج هنا وهناك والموقع المتقدم للمجتمع المدني في العملية السياسية والتأسيسية الراهنة يبدو أن قدرنا في المنظور القريب والمتوسط يتّجه أكثر نحو إرساء نظام متعدّد الأقطاب تمثل حركة النهضة داخله القطب-المركز، نظام سياسي متفرّد بمواصفات تونسية صرفة يحتل المجتمع المدني داخله موقعا محوريا تعديليا كسلطة خامسة حقيقية إلى حين انبعاث تكتلات سياسية فاعلة ذات قاعدة شعبية واسعة...كما أن تعاقب المرجعيات الإيديولوجية في بلادنا وفى محيطنا العربي-الإسلامي على امتداد أكثر من قرن يؤكد نظرية دورية العقائد كقاعدة أصولية في العلوم السياسية على غرار مفهوم الدورية في علم الاقتصاد، فمنذ منتصف العشرينات من القرن الماضي إلى أواخر السبعينات كان الفكر الماركسي يصول ويجول في أذهان جزء كبير من نخبنا المثقفة وبعد بداية تهاوي المعسكر الاشتراكي تصدّر الفكر العربي القومي بمختلف ولاءاته الناصرية كانت أم البعثية المشهد السياسي إلاّ أن هزيمة 67 أعادت نحت المشهد بإطلاق الإرهاصات الأولى لدورة سياسية جديدة تمثلها أحزاب وحركات سياسية ذات مرجعية إسلامية بصدد إعادة تشكيل خارطة الجيوبوليتيك للمنطقة والعالم بأسره بشكل جذري... اليوم ومع انطلاق العدّ العكسي لموعد الانتخابات المقبلة وفى ظلّ مناخات من التجاذبات السياسية الحادّة وغياب واضح لاستراتيجيات توافقية محدّدة حول الملفات الكبرى فإنّ احتمال تسلل جزء من الحركات الأصولية المتشددة داخل العملية السياسية بأقنعة متعددة يبقى أمرا ممكنا من شأنه أن يعيد خلط الحسابات وبعثرة الأوراق من جديد... فهل سيتكرر سيناريو العريضة الشعبية ؟؟