ما يمكن ملاحظته بسهولة إثر أعمال الشغب الخطيرة الأخيرة أنّ هناك تحوّلات واضحة لا لبس فيها في مواقف بعض الأطراف سواء في السّلطة أو المعارضة في اتجاه التّعقّل و الحكمة و التّخلي عن خطابات «اللغة الخشبيّة» و التّصعيد و الإبتعاد عن المواقف الشعاراتيّة و الإيديولوجيّة المتصلّبة. فما بدا كأنه غائب عن أذهان قسم لا يستهان به من الفاعلين في المشهد السياسي سواء داخل السلطة أو المعارضة أو المجتمع المدني أو المنظمات المهنية منذ انتخابات 23 أكتوبر هو السعي لتقدير حجم الرهانات المطروحة والتحديات القائمة وضبط سلم الأولويات الحقيقي وسجنهم لأنفسهم داخل صراعات عبثية تحكمها حسابات فئوية وحزبية قصيرة المدى يتوقف مداها عند الانتخابات القادمة، بينما الرهان الحقيقي هو أكبر وأوسع وأشمل وأخطر. فالبلاد خرجت من ثورة مدوية زعزعت عرش دكتاتورية متوحشة متخلفة امتدت رجاتها الارتدادية إلى مصر وليبيا والبحرين ومهددة عددا من الأنظمة العربية الأخرى، مما يسمح بسهولة بالتقدير السليم لحجم الأخطار الداخلية والخارجية والتي لا تتوقف حتى عند هذا الحد بل تتجاوزه. فنجاح مسار ثورتنا وبالأخص اكتماله يمثل أيضا خطرا على القاعدة وعلى غيرها من الحركات العقائدية المتطرفة إذ أن من شأنه أن يسحب البساط من تحت أقدامها ويُفْلسَ أطروحاتها وشعاراتها. ولئن كان للرجة الأخيرة من خير فهو دون شك هذا التحول الملموس في بعض المواقف الذي ستتبعه حتما مراجعات للاستراتيجيات وترتيب الأولويات. فلئن كان السلفيون هم «أبناء تونس» فإن المطروح لم يكن في أي وقت إطلاقا تحديد رابطة الأبوة والبنوة من عدمها بل ما كان مطروحا هو معاقبة كل تعد على القوانين مهما كانت درجته وحجمه حتى لا يتوسع الفتق على الراتق. ولئن كان مطلب الحرية أحد مطالب الثورة الرئيسية فلم يكن أبدا مطروحا على إطلاقه إلى درجة ألا يمكن الفرز بينه وبين الفوضى والمجهول. فعندما تذهب تونس لن يبقى هناك ما يمكن أن نتصارع حوله وإن كرسي الحكم لا قيمة له أمام البلاد برمتها. لقد حان الوقت ليبتعد الجميع بأنظارهم عن هذا الكرسي وبريقه الكاذب وينحوا نحو تحديد الأولويات، حسب معيار المصالح العليا للوطن ولا شيء غيره، في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ بلادنا وثورتها لبناء الحرية الجديدة ومؤسساتها ووضع قواعد صلبة للعيش المشترك مسقطين كل الشعارات الجامدة والقوالب المعلبة سواء جاءت من «اليمين» أو «اليسار» أو مما هو بينهما.