أعلن سيادة الرئيس زين العابدين بن علي يوم الخميس الماضي في الكلمة التي ألقاها أمام أعضاء السلك الديبلوماسي المعتمدين بتونس عن قراره القاضي بتطوير الهيئة العليا لحقوق الانسان والحريات الاساسية " وذلك بالارتقاء بالاحكام المنظمة لها الى مرتبة قانون وتمكينها كمؤسسة وطنية لحقوق الانسان من الاستقلال الاداري والمالي ومراجعة تركيبتها بما يدعم التواصل بين الدولة ومكونات المجتمع المدني وتعزيز اختصاصها..."، ولا شك ان هذا القرار يكتسي أهمية بالغة وله أبعاد كبيرة وانعكاسات جد ايجابية على عمل الهيئة ودورها على المستوى الوطني والدولي ويتجه تسليط بعض الاضواء على تجليات هذه الاثار. من المعلوم انه تم إحداث الهيئة العليا لحقوق الانسان بمقتضى الامر عدد 54 المؤرخ في 7 جانفي 1991 والذي وقع تنقيحه بمقتضى الامر عدد 2141 المؤرخ في 10 ديسمبر 1992 وخاصة الامر عدد 2846 المؤرخ في 8 نوفمبر 2006 وهو تنقيح هام لانه وسع في صلاحيات رئيس الهيئة وذلك بتمكينه دون سابق إعلام من زيارة المؤسسات السجنية والاصلاحية ومراكز الايقاف ومراكز إيواء أو ملاحظة الاحداث والهياكل الاجتماعية المهتمة بذوي الاحتياجات الخصوصية للتثبت من مدى تطبيق التشريع الوطني الخاص بحقوق الانسان والحريات الاساسية كما ان هذا التنقيح وسّع في صلاحيات الهيئة وذلك بتمكينها من قبول العرائض والشكايات حول المسائل ذات الصلة بحقوق الانسان والحريات الاساسية الصادرة عن المواطنين وترفع تقارير في شانها الى رئيس الجمهورية. ثم أُدخل تنقيح آخر بموجب الامر عدد 886 المؤرخ في 10 افريل 2007 وهو يتعلق أساسا بتركيبة الهيئة وصدر الامر عدد 1789 المؤرخ في 17 جويلية 2007 والمتضمن تعيين أعضاء الهيئة وهم يتوزعون الى مجموعتين: الفئة الاولى تضم شخصيات وطنية ، والثانية تشمل ممثلين عن مجلسي النواب والمستشارين وعن الجمعيات الناشطة في مجال حقوق الانسان والحريات الاساسية. وبقطع النظر عن ايجابية تلك التنقيحات فان إحداث وسير عمل المنظمات الوطنية لحقوق الانسان يخضع لجملة من المعايير الدولية التي تضمنتها ما اصطلح على تسميته "بمبادئ باريس " التي أقرتها لجنة حقوق الانسان التابعة لمنظمة الاممالمتحدة في اجتماعها المنعقد بالعاصمة الفرنسة من 7 الى 9 أكتوبر 1991. وتضمنت هذه المبادئ التي صادقت عليها الجمعية العامة للامم المتحدة في قرارها عدد 48/134 المؤرخ في 20 ديسمبر 1993 جملة من المعايير والقواعد التي يتعين على المنظمات الوطنية لحقوق الانسان التقيد بها واحترامها ومن أهمها "ان تكون للمؤسسة ولاية واسعة قدر الامكان ومنصوص عليها صراحة في احد النصوص الدستورية أو التشريعية التي تحدد تشكيلها ونطاق اختصاصها" (البند الثاني من مبادئ باريس). ومعنى ذلك انه يجب ان يكون إحداث وتنظيم هذه المؤسسات بمقتضى أحكام دستورية أو بموجب قانون ومن هنا تتجلى أهمية وأبعاد القرار الرئاسي الذي يستجيب للمعايير الدولية المذكورة وهذا مظهر آخر من مظاهر انخراط تونس في المنظومة الدولية لحقوق الانسان وملاءمة التشريع الوطني لها. كما ان هذا الاجراء الرائد سيمكن من تصنيف الهيئة وتميزها عن بعض المؤسسات الاخرى وهو بالخصوص بمثابة تأهيل قانوني للهيئة أي انه يعطيها الصفة والاهلية القانونية لتنشط على الصعيد الدولي والمشاركة الفعالة في بعض المؤسسات والمنظمات الدولية ذات الصلة بحقوق الانسان وفي مقدمتها مجلس حقوق الانسان إذ ان هذا التأهيل سيمكنها من ان تكون لها صفة الملاحظ لدى هذا المجلس الذي يعمل بالتعاون مع الحكومات والمنظمات الاقليمية والمؤسسات الوطنية لحقوق الانسان والمجتمع المدني ويتجه التذكير في هذا السياق بأن تونس كانت من أوائل الدول التي تم انتخابها عضوا فيه وذلك يوم 9 ماي 2006 وفازت بالعضوية فيه بالحصول عليه 177 صوتا. بالاضافة الى ذلك فان الهيئة العليا لحقوق الانسان والحريات الاساسية هي من أقدم منظمات حقوق الانسان على الصعيد العربي والافريقي والدولي وبالتالي فهي جديرة بهذا التأهيل والتطوير والارتقاء. ومعلوم انه كان سبق لتونس ان احتضنت من 13 الى 17 ديسمبر 1993 حلقة التدارس الدولية الثانية للمؤسسات الوطنية لحقوق الانسان وقد حضرها ممثلو أكثر من 28 مؤسسة وناقشوا مواضيع هامة مثل العلاقات بين الدولة والمؤسسات الوطنية لحقوق الانسان كما تقرر خلال هذه الندوة إنشاء لجان تنسيقية متكونة من مؤسسات وطنية في كل القارات. ولقد تضمن أيضا القرار الرئاسي عنصرا هاما هو تمكين الهيئة العليا لحقوق الانسان والحريات الاساسية من الاستقلال المالي والاداري وهذا الاجراء يستجيب أيضا لمبادئ باريس والقواعد الدولية المتعلقة بالمنظمات الوطنية لحقوق الانسان ومنها تامين الاستقلال القانوني والتنفيذي والمالي نظرا للترابط بين الاستقلال الوظيفي والاستقلال المالي وقدرة المؤسسة على تسيير شؤونها اليومية وفصل ميزانيتها عن ميزانية أية إدارة أو وزارة حكومية (يراجع حول هذه المسالة كتاب مؤسسات حقوق الانسان الوطنية. نشر مركز حقوق الانسان بجينيف التابع للامم المتحدة طبعة 1995 صفحة 30 و31). وأخيرا أعلن سيادة الرئيس على مراجعة تركيبة الهيئة العليا لحقوق الانسان والحريات الاساسية "لتدعيم التواصل بين الدولة والمجتمع المدني" ومن الواضح ان هذا القرار ينصهر أيضا في "مبادئ باريس" التي تعرضت أيضا الى "تشكيل المؤسسات الوطنية" وأقرت "التمثيل التعددي للقوى الاجتماعية المعنية لحقوق الانسان وتعزيزها لاقامة تعاون بين فئات المجتمع المدني". على ان تركيبة المنظمات الوطنية لحقوق الانسان ترتكز على جملة من المبادئ كما أنها تثير بعض الاشكاليات ومبدئيا تجدر الاشارة الى ان المؤتمر العالمي لحقوق الانسان المنعقد في فيانا في شهر جوان 1993 أكد ضرورة إنشاء وتقوية المؤسسات الوطنية لحقوق الانسان مع مراعاة المبادئ المتعلقة بمراكز المؤسسات الوطنية وأكد بالخصوص "حق كل دولة في أن تختار الاطار الانسب لاحتياجاتها الخاصة على الصعيد الوطني". وبذلك فانه يتجه الاخذ بعين الاعتبار للظروف والاوضاع الخاصة بكل بلد على الصعيد السياسي والثقافي والاقتصادي إلا انه لا بد من احترام بعض المبادئ الاساسية إذ من المفروض ان تعكس تركيبة تلك المنظمات التعددية الاجتماعية والسياسية وأن تضمن التنوع الى جانب التعددية وان تمثل الملامح الاجتماعية للمجتمع الذي تنشط في إطاره المؤسسة وتجدر الاشارة الى ان "مبادئ باريس" تعرضت الى هذه المسألة وأشارت الى ضرورة تركيب المنظمات الوطنية لحقوق الانسان من ممثلي المنظمات المعنية بحقوق الانسان والهيئات الاجتماعية والمهنية المعنية ومختلف التيارات الفكرية وممثلين عن البرلمان والخبراء المؤهلين ولم تنص تلك المبادئ على ضرورة تمثيل الاحزاب السياسية في المنظمات الوطنية لحقوق الانسان. ويمكن القول في الختام ان القرار الرئاسي يندرج في نطاق تدعيم منظومة حقوق الانسان في تونس وملاءمتها مع القانون الدولي لحقوق الانسان ومن شانه ان يزيد في إشعاع ومصداقية الهيئة العليا لحقوق الانسان والحريات الاساسية ويمكنها من إبلاغ صوتها في الهيئات الدولية المعنية بحقوق الانسان ويزيد نشاطها نجاعة على الصعيدين الوطني والدولي وهو قرار جدير بالتنويه ويؤكد الارادة السياسية على تدعيم حقوق الانسان في بلادنا.