من بركات المخاض الانتقالي الرّاهن حالة الانفصام السياسي الخطير التي تعاني منه نخبنا دون استثناء وهوسها المرضي في التسويق الممنهج لاستراتيجيات الإثارة بإطلاق بالونات الاختبار وافتعال الأزمات هنا وهناك بعناوين وبمفردات نخبوية جديدة ضاعفت من إرباك المشهد وعرقلت نسق الانخراط الجماعي الفاعل في الحراك المجتمعي... آخرها وليس بآخر التّلويح باستخدام لائحة اللّوم لسحب الثقة من الحكومة على خلفيّة تنازع الاختصاص بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، حتّى إن البعض حاول أن يقنع نفسه والآخرين بأنّها مستقيلة لا محالة بفعل هذا الزرّ النووي!! ماذا نعني بالتّحديد بلائحة اللوم؟ ماذا عن منشئها في نظامنا التشريعي؟ وعن نماذجها المتعدّدة في القانون المقارن؟ وعن إمكانات تحرّرها من فيروس الاستنساخ العام الذي ضرب منظومتنا التشريعية؟ وعن امتداداتها الرمزية الممكنة خارج المساحة الحقوقية الضيّقة للمصطلح؟ في التعريف القاموسي المبسّط تعدّ لائحة اللوم آلية وحقّا دستوريا يسمح للمعارضة في الديمقراطيات بسحب الثقة من الحكومة ومطالبتها بالاستقالة بعد استيفاء مجموعة من الشروط الشكلية والموضوعية المتباينة من تشريع إلى آخر.. ومن باب التصويب فقط تقتضي الإشارة إلى أنّ التقنين الدستوري للائحة اللوم المنصوص عليها بالفصل 19 من قانون التنظيم المؤقت للسّلط العمومية لم تنطلق اليوم بل تعود في الأصل إلى المادتين 62 و63 من دستور 59 اللتين ظل العديد من فصولهما موميائيات محنّطة دون تفعيل على امتداد أكثر من خمسة عقود!! و من المفارقات حقا أن نسبة نجاح استخدام هذه الآلية في النظم التشريعية المقارنة لا تكاد تفوق 1 في المائة!! ففي فرنسا ومنذ الإعلان عن دستور 58 إلى الساعة تمّ تقديم أكثر من 105 لوائح لوم لم تنجح منها إلاّ لائحة واحدة سنة 1962 أدّت إلى إسقاط حكومة جورج بومبيدو.. إذن؛ ما الجدوى من تشريعها دستوريا؟ الجدوى كل الجدوى تكمن في قوتها الرّادعة للحكومات المتسلّطة أو المتعثّرة في أدائها قصد منعها من الجنوح أو التغوّل؛ فهي بمثابة قرينة قاطعة غير قابلة للدحض عن وجود أزمة حكم حقيقية تفترض في الحدّ الأدنى شكلا من أشكال الحوار والمساءلة...وفي حضورها القوي صلب العديد من النظم الدستورية المقارنة إن لم نقل جميعها بمقاربات مختلفة لتفصح من الداخل عن روح حقوقية مبدعة وعالية تستبطن نماذج متعدّدة من لوائح اللوم وفق الخصوصيات السياسية والثقافية لكل شعب ... ففي مدوّنة الدستور الفرنسي تختلف لائحة اللّوم التلقائية جذريا عن لائحة اللّوم المثارة من قبل رئيس الحكومة، وهى ليست بنفس المعنى والتداعيات عند القيام بها من نواب كنديين أو ألمان على سبيل الذكر.. ففي كندا المعروفة بتنوّعها الإثني-الثقافي ودرءا لمخاطر الانزلاق في نظام برلماني غير مستقر بفعل الاستخدام المفرط للائحة اللوم ارتأى المشرع الكندي استحداث لائحة لوم مزدوجة التي بتحقّقها تستقيل الحكومة ويحلّ البرلمان... أما وفق الصورة النمطيّة للمواطن الألماني المعروف عنه بالانضباط الشديد والجدية فقد استقرّ القانون الأساسي الألماني على تبنّي مفهوم لائحة اللّوم البناءة التي بموجبها لا يمكن المطالبة بسحب الثقة عن الحكومة دون القيام بترشيح مسبق لرئيس حكومة جديد على قاعدة أنه لا يمكن الشّروع في إسقاط حكومة دون اقتراح تعويضها بأخرى. بالمحصّلة نلمس ثراء المخيال التشريعي المقارن في التّعاطي مع لائحة اللوم بعيدا عن الاستنساخ والنمطية المتكلّسة ممّا يمنح الفرصة للّجان المكلفة بصياغة الدستور المقبل الاستئناس بهذه التجارب عند التطرّق لهذه المسألة والعمل على استنباط لائحة لوم بملامح ومواصفات تونسية تعمل على خلق أفضل توازن بين تحقيق حدّ أدنى من الاستقرار السياسي للبلاد من جهة وضمان حدّ معقول من النّجاعة في الأداء الحكومي من جهة ثانية... ودفعا للنقاش ومن باب الاجتهاد الشخصي أقترح استحداث لائحة لوم بالتدرّج أو على درجتين تعمل في مرحلة أولى على مسائلة الحكومة ومنحها هامشا من الوقت للتدارك ثم سحب الثقة عنها تماما في مرحلة ثانية بإجراءات مخفّفة مع وجوب اقتراح رئيس حكومة جديد ...الكلّ في دينامية من التدرّج الإجرائي والزمني السلس والانسيابي... فاستقراء للمشهد العام بصوره المحبطة يحيل الجدل القائم اليوم حول لائحة اللوم برمّته من دائرة النقاش القانوني الأكاديمي داخل وخارج أروقة المجلس التأسيسي إلى النطاق الدّلالي الرّمزي... فالترويكا تتحرّك اليوم ببطاريات شحن متعدّدة تدفعها هواجس انتخابية بحتة بعيدة كل البعد عن منطق الدولة.. ومعارضة مع وقف التنفيذ في معارضة حقيقية ومفتوحة مع قواعدها.. والنّزوع إلى الذاتية المفرطة والمهنية الضيقة.. وانخراط الجميع في منطق نفعي عاجل غير معقلن!! من يلوم من ؟ قطعا لا أحد يملك هذا الحقّ، فلوائح اللوم - القانونية والرّمزية والأخلاقية- ينبغي أن ترفع في وجه الجميع لتصبح لائحة اللوم العنوان الكبير المؤلم للمرحلة الانتقالية... فهل سيسحب هذه المرّة بساط الثقة من تحت أقدامنا دون رجعة ؟