إذا الشمس غرقت في بحر الغمام ومدت على الدنيا موجة ظلام ومات البصر في العيون والبصاير وغاب الطريق في الخطوط والدواير يا ساير يا داير يا ابو المفهومية مفيش لك دليل غير عيون الكلام
هذه الأبيات هي للشاعر المصري احمد فؤاد نجم, تعكس إلى حد ما, الوضع الذي نعيشه اليوم في تونس...تونس الثورة...تونس التي نجحت في تنظيم أول انتخابات ديمقراطية في تاريخها الطويل. إن الثورة التونسية التي مكنتنا من انفلات ديمقراطي لا عهد لنا به , ونزعت عنا الخوف بصفة لا رجعة فيها, لم تخلصنا, بالمقابل, من أمراض علقت بنا منذ الأزل, والتي زادتها رياح السابع من نوفمبر رسوخا في نفوسنا... إن بعض ما نشاهده»تحت قبة المجلس التأسيسي» يذكرني بحادثة عشتها وصديق لي, منذ عقدين من الزمن تقريبا, بمنطقة سيدي بوسعيد, وتتمثل فيما يلي: بينما كنا متوجهين سيرا نحو»القهوة العالية» وقعت أمام أعيننا حادثة طريفة تتمثل في أن ضريرين ,احدهما كان نازلا المرتفع المؤدي إلى المقهى المذكور, والثاني كان يسير في الاتجاه المعاكس, وكنا جميعا على نفس الرصيف, وفجأة حدث أمامنا ما لم تتوقعه المارة وهو حادثة اصطدام الضريرين المذكورين. غيرأن المفاجئة لم تتوقف عند ذلك الحد, فلقد رفع كل منهما عصاه في وجه الآخر صائحا: «مالك..هل أنت أعمى, آفلا تبصر؟». فضحكنا ضحكا مريرا, ولازلنا كلما تقابلنا, نعيد سرد هذه الحادثة الطريفة التي لا تتكرر كل يوم... لكن ما علاقة هذه الحادثة وبعض ما يجري في المجلس التأسيسي؟ الجواب هو التالي: لقد لاحظت, كما لاحظ غيري, ما ساد الجلسة العامة الأخيرة التي عقدها المجلس التأسيسي, من مهاترات, بمناسبة تعيين السيد العياري كمحافظ جديد للبنك المركزي. لقد سمعنا الكل يتهم الكل بالانتماء للتجمع المنحل, إلى درجة أننا لم نعد قادرين على أن نتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود...أي لم نعد نعرف من هو المنتسب للتجمع ومن هو خلاف ذلك... والتجمع في رأيي هو مجموعة من الناس تجمعهم مصالح شخصية أكثر منها انتماء إلى حزب اسمه التجمع الدستوري الديمقراطي...وهناك من يشك,أصلا, في وجود حزب يحمل هذا الاسم , وقد أكد السيد محمد الغرياني أخر أمين عام للتجمع المنحل انه لم يتصل به أي من المنتمين للتجمع, بعد قرار حل هذا الأخير, ويقصد بذلك انعدام ردة فعل التجمعيين على قرار حل تنظيمهم ... والواقع أن العقلية الانتفاعية لا تقتصر على من يفترض أنهم منتمين للتجمع, والدليل على ذلك أن هذه العقلية ظهرت,بعد الثورة, لدى من كانوا يعارضون التجمع أو يتظاهرون بذلك... ويبدو أن كثيرا ممن يتبرؤون من الانتماء للتجمع, هم فعلا كانوا,في وقت ما منتمين له , فشلوا في احتلال مواقع داخله, فثأروا لأنفسهم , بعد الثورة, بأن تسللوا إلى أحزاب في طور التكوين وصنعوا لأنفسهم عذرية جديدة, رافعين شعارات الثورة...فالمسالة ,كما أسلفنا, أعمق من الانتماء لعدمه. فهي تتعلق بعقلية معينة, تكونت طوال عقدين أو ما يزيد من الزمن تحت ظل نظام لا يقبل الاختلاف, ينخره الفساد وتقوده عقيدة شعارها الغاية تبررالوسيلة. وقد غذى هذه العقيدة ,ما شاهدناه من سباق محموم ,سلكته بعض فئات من مجتمعنا, وذلك مجاراة لفئات أخرى تتبع نمط استهلاك جنوني ولها إمكانيات, في غالب الأحيان, مشبوهة المصدر هذه العقلية السرطانية أصابت أحزابا ,كانت ترفع, في وقت ما, شعار مقاومة النظام السابق لكنها سقطت سقوطا مدويا, في أول امتحان لها , عندما مارست السلطة بعد الثورة. ورغم انكشاف حالها, فهي لازالت ترفع شعارات منادية بإقصاء التجمعيين, في حملة انتخابية مبكرة, في الوقت الذي تمارس فيه, ممارسات لا تليق إلا بالمافيا التي حكمت البلاد ما يزيد على عقدين من الزمن...وبالتالي فالانتماء للتجمع هو, في الواقع, عقلية تسربت إلى غالب فئات المجتمع والكثير من نخبه ... إن تمشي الحكومة المتردد وروح الهيمنة المتأصلة في بعض كوادر النهضة الذين لم يتخلصوا من الفكر الأحادي, بالإضافة إلى سوء أداء المعارضة المتهافتة والمتعجلة, أوصلنا إلى أن يتراشق التجمعيون المفترضون فيما بينهم, وتحت قبة المجلس التأسيسي بالذات,بتهمة الانتماء للتجمع... إن المغرب الشقيق لم تقم فيه ثورة, لكنه استطاع فتح صفحات قاتمة من تاريخه وقام بالتعويض المعنوي قبل المادي لمئات من ضحايا الاستبداد, في الوقت الذي تكاد تونس, أن تفوت فرصة ذهبية للمصالحة مع تاريخها بحلوه ومره ...وما التراشق الكلامي القائم بين الحكومة وجمعية الصحفيين ,فيما يخص قائمة آو قائمات الصحفيين المتعاونين مع الداخلية, إلا دليل عل ذلك... أكاد أقول أن الوقت يمر في غير صالح أهداف الثورة, بعد أن هدأت العاصفة وعادت قوى الماضي , في ثوب جديد, تحت مسميات جديدة, طمعا, في حكم البلاد من جديد...