في محاولة للاجابة عن هذا السّؤال، من وجهة نظر قانونية ودستورية، يقدم الدكتور أمين محفوظ الخبير في القانون الدستوري رؤيته للموضوع في الورقة التالية: "إنّ تقديم أيّ إجابة يحتاج إلى العودة إلى عوامل تتعلق بالشرعية وبالمشروعية. في جانبها الأول نلاحظ أنه لا أحد ينكر أن النّصوص القانونية الصّادرة في الفترة الإنتقالية الأولى تعدّ جزءا لا يتجزأ عن المنظومة القانونية لبلادنا. وتبعا لذلك فهي تلزم الجميع بما فيها من سلط عمومية وأطراف فاعلة كالأحزاب السّياسية والمنظّمات الوطنية وغيرها. وقد تضمّنت أهمّ هذه النّصوص تحديد قواعد اللّعبة السّياسية: مرسوم انتحابي، مرسوم يتعلق بإحداث هيئة انتخابات.. وخاصّة أمرعدد 1086 لسنة 2011 مؤرخ في 03/08/2011 يتعلق بدعوة الناخبين لانتخاب أعضاء المجلس التأسيسي. وفي إطار هذا التسلسل القانوني صدر، بعد نجاح العملية الإنتخابية، الأمر عدد 3576 لسنة 2011 مؤرخ في 14 نوفمبر2011 يتعلق بدعوة أعضاء المجلس التأسيسي لحضور جلسته العامة الافتتاحية تضمّن في طالعه إشارة واضحة إلى الأمر عدد 1086. وقد اجتمع أعضاء المجلس على أساس هذه النصوص القانونية. وهو ما يعني قبول الجميع بهذه القوانين. ولم يقم أي كان بالطعن في شرعيتها. بل إن الإمتثال إليها والمشاركة في الإنتخابات يعني قبولا كلّيا بها. وقد أبرم، على أساس هذه المنظومة القانونية، عقد بين الناخب والمنتخب، يقتضي انتخاب مترشحين ليضعوا، في مدّة سنة، دستورا للبلاد. ولم يكن تحديد المدّة من الناحية القانونية إلا إجراءا ثوريا. لا يجب أن ننسى أنّ عدم اكتراث حكامنا قبل الثورة بالمدّة الزّمنية عند ممارسة وظائفهم السّياسية داخل السلط العمومية كان هو المبدأ (المجلس التأسيسي لسنة 1956، رئاسة الجمهورية،..). إن الإنتخاب لا يعطي أي حقّ لأعضاء المجلس أن ينقلبوا على قواعد اللّعبة المذكورة. وإذا ما جاز للمجلس التأسيسي تغيير بعض التشريعات النّافذة فإنّه لا يحقّ له من حيث المبدأ تغيير قواعد اللّعبة التي كانت مصدر وجوده. ولا يوجد على كل حال في القانون التأسيسي عدد 6 لسنة2011 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية إلغاءا صريحا لمضمون الفصل الذي حدّد المدة الزمنية بالأمر المذكور. إذ نعتقد أنه وإذا ما تراءى لأعضاء المجلس التّنكر للأمر المذكور فإنّه كان لزاما من الناحية القانونية الصّرفة أن نجد فصلا في القانون التأسيسي يلغي صراحة التحديد الزّمني لعمل المجلس. ولكن لا فقط لم يقع العمل بهذا الأسلوب السّليم وإنّما نكتشف بقراءة القانون المذكور اعتراف أعضاء المجلس في طالع القانون التأسيسي عدد 6 بكل النصوص القانونية التي اتخذت على أساس المرسوم عدد 14 لسنة 2011 المؤرخ في 23 مارس 2011 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية. كما تعهد أعضاء المجلس بالحرص "على إنجاح المسار التأسيسي ". وتعني كل هذه النصوص القانونية أنّ مسؤولية المجلس ليست مسؤولية بذل عناية وإنما هي مسؤولية تحقيق غاية. ألا وهي وضع دستور في أجل أقصاه سنة. وبالعودة إلى التجارب المقارنة نلاحظ أن المجلس التأسيسي الذي انتخبه الشعب الفرنسي في 21 أكتوبر 1945 التزم بوضع دستور في ظرف 7 أشهر ليعرض فيما بعد على الإستفتاء. وقد أنهى المجلس أعماله في ظرف 6 أشهر وعرض المشروع فيما بعد بتاريخ 05 ماي 1946 على الإستفتاء. ولم يقبل به آنذاك الشعب. حينها فقد المجلس شرعيته. وقد وقع انتخاب مجلس ثان في 02 جوان 1946 أتمّ صياغة مشروع دستور آخر في ظرف 4 أشهر وقبله الشعب الفرنسي بموجب الإستفتاء المؤرخ في 13 أكتوبر 1946. و يعني هذا التمشي احترام المجلس لشعبه وللوكالة المناطة بعهدته. فكان بذلك أعضاء المجلس التأسيسي الفرنسي سنة 1945 في مستوى التعهدات المذكورة ووضعوا في ظرف سنة مشروعي دستور. وقد كان الأجدر بنوابنا الاقتداء بهذا المثل. لكن يبدو أنهم فضلوا الإقتداء بتجربة المجلس التأسيسي التونسي في التجربة الفاصلة بين 1956 و1959. إذ عادة ما يردّد العديدون أن المجلس له سلطة مطلقة وهو غير مقيّد. وهو عين الخطأ. بل يستأنس البعض كمثال على إطلاقية السّلطة تصرّف المجلس التأسيسي في 25 جويلية 1957. ويفترض في هذا الإطار الوقوف عند هذا المثل. يغيب دائما عند عدد من الملاحظين أن ما أتاه المجلس في تلك الفترة يعد من الناحية القانونية انقلابا لأنه تمرّد على الأمر العلي الصادر سنة 1955. إلا أن الشعب التونسي قبل آنذاك هذا الإنقلاب فأضفى عليه مشروعية واضحة. أمّا اليوم فإن الظّرف يختلف تماما. إن عدم احترام هذا الأجل يعني رفض الإمتثال إلى نصّ قانوني: الأمر عدد 1086. وتنطبق نفس الملحوظة على القانون التأسيسي الذي وضعه المجلس نفسه والذي تضمّن عهدا إضافيا. ألا وهو السّعي "لتجسيد مبادئ الثورة المجيدة وتحقيق أهدافها...". وهو ما يحيلنا إلى المشروعية، الجانب الثّاني لمحور هذه الفكرة. إن مشروعية المجلس لم تأت من العدم بل هي منحدرة من مشروعية تعلوها درجة ألا وهي المشروعية الثورية. فقد تمّت إدارة المرحلة الإنتقالية الأولى على أساسها. كما أنّها أوصلتنا إلى المرحلة الإنتقالية الثانية. إن الشّعب التونسي بإقباله على العملية الإنتخابية لم يتخلى البتّة عن سيادته وإنما أعطى تفويضا لمن انتخبهم "لتحقيق أهداف الثّورة". ولا يشكل وضع الدستور في ظرف سنة إلا إحداها. ولا يجوز من هذا المنطلق الحديث عن سلطة مطلقة للمجلس. بل إن إمكانية انحراف المجلس عن مساره تصبح واردة. وفي هذه الحالة يجوز للشعب أن يمارس سيادته كاملة. إذ يمكن له أن يفسخ الوكالة لعدم احترام مقتضياتها. ويكون تبعا لذلك الشعب التونسي هو المؤهل الوحيد لتقديم إجابة واضحة لهذه الإشكالية. على أنّ التعرض إلى هذه المعطيات لا يمنع من أن نحذّر أن قبول انقلاب 25/07/1957 لا يعني بالضرورة أن التاريخ سوف يعيد نفسه. فلا أحد يضمن أن الشعب سوف يقدم بعد انقضاء المدّة المحدّدة نفس الإجابة. إن عوامل عديدة تؤثر بالتّأكيد على نوعية هذه الإجابة. والظّرف الحالي على كلّ ليس بظرف 1957. يؤكد علماء السّياسة أنّ سرّ نجاح النّظام السّياسي لا يكمن في تجاهل المطّالب التي توجه إليه أو في التّقليل من شأنها تحت أي عنوان كان. بل على العكس من ذلك وجب على النظام السياسي أن يقدّم إجابة واقعية يقبلها الشعب. فلنتذّكر أن عملية ما، قد يعتبرها النّظام حادثة مهمّشة أو معزولة غير أنها قد تتسبّب في تهديد كيانه. إنّ "قيام المرحوم البوعزيزي بحرق نفسه" اعتبر على المستوى الرّسمي حادثة معزولة. ولكنها أدّت إلى عزل رموز النّظام السياسي. من هذا المنطلق وجب أخذ تاريخ 23 أكتوبر 2012 مأخذ الجدّ. ولا يمكن بأي حال تجاوز هذا الإشكال إلا بعملية استباقية تفتح حوارا وطنيا يجمع الأحزاب السّياسية وممثلي المجتمع المدني الذي يقود قاطرته الإتحاد العام التونسي للشغل. إن العودة إلى التوافق الذي أنجح الفترة الإنتقالية الأولى هو الضّامن الوحيد لإنجاح الفترة الإنتقالية الثانية. وإلاّ سوف يفقد الشعب الثّقة في جميع المؤسسات وتدخل البلاد المجهول وهو ما نجحنا في تفاديه في الفترة الإنتقالية الأولى. ف"أوفوا بالعهد"." بقلم: الاستاذ أمين محفوظ