تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدلية الهوية الثقافية العربية على محك العولمة (1-2)
نشر في الصباح يوم 14 - 02 - 2008

اهتم الرأي العام العربي والدولي بمختلف اتجاهاته وقناعاته وإيديولوجياته بملف العولمة وتداعياتها على المجتمعات والأفراد والأمم، وهو الملف الذي أصبح من المواضيع الأكثر نقاشا وجدلية اليوم (1)، وكان وراء مئات المؤتمرات والندوات والموائد المستديرة في كل الفضاءات والمراكز والجامعات والقنوات الفضائية عبر العالم (2)،
وساهم فيها خبراء واستراتيجيون ومنظرون دوليون ومشاركون عابرون. وقد برز خلالها تياران لا ثالث لهما، أولهما هو المؤيد المطلق والمدافع الشرس عن العولمة ومكاسبها، باعتبارها هبة العالم المتقدم إلى العالم بأسره. أما ثاني التيارين فهو الرافض لها جملة وتفصيلا، باعتبار هذه العولمة هي اغتصاب ثقافي استهدف العمق الحضاري للأمم والشعوب والأقليات.
وقد تولد عن ذلك صدور مئات العناوين كل شهر تقريبا وبعدة لغات لدى دور النشر الدولية (3)، وسلطت الأضواء المتضاربة عن صيرورة العولمة اليوم. والتساؤل أين نموقع البلاد العربية من هذا الاهتمام لملف تداعيات العولمة المختلفة علينا وعلى حياتنا المعرفية والإقتصادية والسياسية وعلى الأخص من ذلك على هويتنا الثقافية (4)؟.
للإجابة على هذا التساؤل المبدئي نرى أن النقاش حول العولمة شد الإنسان العربي أيا كان اختصاصه وعلى الأخص من ذلك قطاع المال والأعمال المرتبط أساسا بالعالم الأورو-أمريكي، وهو الذي قبل بالأمر الواقع وانخرط في دوامة العولمة. إلا أنه من جهة أخرى برزت المواقف البكائية والتي أغرقتنا في عملية التشخيص والوصف وافتعال نظرية المؤامرة ضد الأمة العربية كوسيلة نعلق عليها القصور المفاهيمي العربي والمواكب للعصر العولمي الذي غزا العالم أجمع (5)، ويتم ذلك دون التوصل إلى تبني استراتيجية مستقبلية تحدد المفاهيم والالتزامات والتشريعات الأساسية الجديدة التي أحدثتها العولمة. فعسى أن نوفق في اختراق هذا الملف ونخرج بتصورات وتشريعات عملية قابلة للتنفيذ، كما ونعمل على الدفاع عن الهوية الثقافية العربية في المساقات العولماتية الجديدة. وبادئ الأمر لديّ ملاحظة أسردها هنا :
- يشد انتباه أي باحث متأمل في الواقع العربي الحالي، أنه واقع متدن غير مؤسساتي، ولا يزن في المعادلات الدولية شيئا، وهذا نظرا لعدم استشراف دقيق لتداعيات المد العولمي الجارف والعاصف والذي سيطر على الكون كله، وحيث استهدف ليس فقط المؤسسات التربوية بل العمق الحضاري بثوابته ومبادئه وقيمه وتقاليده العريقة، من خلال سيطرة الشركات الكبرى المتعدّدة الجنسيات الاقتصادية والمالية والتجارية وهي التي افتكت مقاليد السلطة والنفوذ (6) وأصبحت تمسك بمقدرات الشعوب وتفرض عليها نماذجها وقوانينها. كما برزت نتيجة لذلك زمن المستضعفين تكنولوجيا وثقافيا ومعرفيا، وهم الذين دحرجتهم العولمة الجارفة إلى أسفل السافلين وأبعدتهم تماما عن الاستفادة من تداعياتها الإيجابية والعمل على تفادي مضارها المدمرة عليهم ثانيا.
لنركز بادئ الأمر حول التداعيات الإيجابية لزمن العولمة الذي نعيشه الآن :
إننا نعيش زمانا جديدا تحكمت العولمة في كل آلياته وانقسم العالم إلى زمن الأقوياء ماليا وتجاريا وتكنولوجيا ومعرفيا وثقافيا، والضعفاء المغلوبين على أمرهم. ونظرا لتشعب مسالك هذا الموضوع، سوف نتوقف بادئ الأمر حول إيجابيات العولمة المعرفية والتي تهمنا مباشرة، لارتباطها بالذاكرة الجماعية للأفراد. وبادئ الأمر نشدد على أن التواصل مع الخبراء والمتخصصين في كل حقول المعرفة في العلوم الإنسانية أو بقية العلوم الأخرى من فيزياء وكيمياء وحسابيات وطب، أصبح أمرا سهلا ويسيرا جدّا من خلال تقليص المسافات في بعديها المكاني والزماني، وهذا ما ساهم بشكل مباشر في تعزيز وتعميق جدلية التواصل والحوار بين الأفراد والجماعات وعلى الخصوص مع جمعيات المجتمع المدني الدولية، وهذا على الرغم من اختلاف المقاصد والأهداف ونسبية النتائج النهائية. لنتوقف قليلا حول ما توفره العولمة الانترناتية بالنسبة للتعليم العالي والبحث العلمي مثلا، والتي جسدتها بعض الجامعات الرائدة اليوم عندما انظم عشرات الملايين من الأفراد عبر العالم (نعم عبر العالم) لتلقي العلم بالوسائط السمعية البصرية مجانا. ناهيكم أن معهد ماستشوسيتس للتكنولوجيا (M.I.T) مثلا، لديه حاليا 1800 صف تؤمن الدروس مجانا وأن 35 مليون شخص (نعم خمسة وثلاثون مليونا) جربوا دورات هذا المعهد. والتي تؤمن لخريجيها أن يبقوا على اتصال بالجديد الجديد في البحث العلمي بل والمشاركة فيه من خلال تعميم الشراكة البحثية الدولية وتحقق المصلحة العامة (7)، إذ الأفكار والمال تتخطى الحدود بطريقة سريعة ومدهشة لم يسبق لهما مثيل في التاريخ البشري.
لقد انتهى زمن الجامعات العربية التقليدية التي لا تزن شيئا ولا قيمة لها علميا على المستوى الدولي. كما أن زمن احتكار المعلومات في وجوه الباحثين وإعاقة الاستفادة من أرصدة المعارف المختلفة، هي ظاهرة بائسة، مازال سدنة المكتبات والأرشيفات العربية يمارسونها بل ويمنعون حتى مواطنيهم من الاطلاع عليها. والحقيقة أن هذا الأمر قد انتهى وحلت محله الآن فلسفة ومبدأ الوصول الحر للمعلومات(8) عندما قضت الأنترنت هذا الإشكال ووضعت على الانترنيت المكتبات الوطنية الدولية مثل المكتبة الوطنية في السويد وقوائم المخطوطات والأرشيفات في مواقع ثابتة ومفتوحة للجميع، بل وفتحت روائع المسرح والمتاحف العالمية والجامعات ومراكز البحوث الحقيقية والافتراضية عبر العالم، الأمر الذي مكن من معرفة آخر المستجدات البحثية والنظريات والاختراعات الجديدة ومواكبتها بسرعة جنونية في عديد التخصصات الفنية والطبية والتكنولوجية.
فالتحرر المعرفي العولمي أصبح قيمة مقدسة دون نقاش، وإن هذه النتيجة الرائعة للعولمة على مستوى التعليم العالي (9) تعد المكسب الثمين والذي فاق أهمية كل المكتشفات العلمية عبر التاريخ الإنساني قاطبة، بما في ذلك اكتشاف غوتنبرغ للمطبعة في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي. ولا شك أننا اليوم نعيش اكتشافا جديدا على غرار اكتشاف غوتنبرغ، ونعني به النشر الالكتروني، الذي سهل على الجميع اقتناء آخر المستجدات من الكتب في لحظات معدودات. وإنه من العقوق عدم الاعتراف للعالم المتقدم بهذه الحصيلة المشرفة فعلا. فالعولمة المعرفية بصفة خاصة، تمثل بالفعل أجمل وأروع الإنجازات على الإطلاق باعتبارها خلاصة تطور المعرفة الإنسانية برمتها، والتي شرفت الإنسانية جمعاء من خلال تفجير طاقات الإبداع والخلق وموقعت الإنسان، موقعا جديدا بتسريع هائل لوتيرة التقدم وتبني العقلانية، إلاّ أننا نؤكد، من جهة أخرى أن مضارها عديدة (10)، كما سوف نشرحه لاحقا.
فالعولمة المعرفية إذن في خطوطها الكبرى ودون الدخول في التفاصيل، تعد بحق خيرا وهي هدية رائعة من العالم المتقدم للعالم البحثي والجامعي بأسره، وإنه من الخطا الجسيم اعتبار العولمة المعرفية بالذات، وكأنها احدى أدوات الاستعمار الإمبريالي، أو نموذج جديد للأوربة والأمركة الزاحفة على شعوبنا العربية (11). وفي اعتقاد هذا الفريق المعارض للعولمة المعرفية "أن لا شيء يجمعنا بهذا الانبهار والذوبان سوى تاريخنا وحضارتنا التي كانت المعلم والملهم للعالم كله.." (12). كما تم التأكيد أن أمة العرب، هي وريثة أعظم الحضارات التي لم يشهد مثلها العالم (13). إن هذا الموقف يائس حقا، ولا يمكن أن يتبناه إلا كلّ من تعمد عدم إدراك نتائج المتغيرات العولماتية، فلا أحد يشكك في سمو ونبل حضارتنا وانه لشرف لهذه الأمة أن تعتز بهذه المكاسب العلمية الرائدة، ولكننا اليوم نعيش زمانا له نواميس وقوانين جديدة وعلى مجتمعاتنا وأنظمتنا السياسية والتربوية والبحثية أخذ ذلك بالاعتبار، وتوظيف مكتسبات هذه العولمة الفاعلة والإيجابية في حياتنا العامة. إن الحرب التي أعلنها هذا الفريق على العولمة ويحاربها بالخطابات والكتابات النارية باسم القومية والحفاظ على التراث تارة والدين تارة أخرى، لم تعد تجدي نفعا على الإطلاق، وحيث نعتها أحد الباحثين بالجهل المعرفي (14). أما الكاتب أمين معلوف في كتابه الهويات القاتلة، فيذكر أن رياح العولمة الذي تهب على العالم أجمع، سيكون مضحكا إذا سعى البعض إلى عرقلتها وأن الأفضل أن نعرف كيف نستفيد من ذلك بأمان .. (15).
لنؤكد من جديد إننا نعيش زلزالا رهيبا لم يعد يسمح لنا بإلحاق التخلف الذي ران على جامعاتنا ومؤسساتنا التربوية والبحثية طوال نصف قرن من الاستقلالات السياسية للبلاد العربية. ومع هذا هناك عقلاء ومفكرون جادون في الوطن العربي ألقوا الصيحة تلو الأخرى مؤكدين : "أن دول الجنوب في الواقع لم يعد لها خيار سوى إخضاع أي شكل من أشكال الدولة وأي مفهوم من مفاهيم السيادة الوطنية إلى متطلبات العولمة، كلما حدث ويحدث ذلك في البلاد الشمالية بنجاح كامل" (16).
أن مثل هذه الدعوات الملحة، قد ترجمت عن اختمارات تأملية عميقة جدّا في الصيرورة الحتمية للعولمة، إلا أنه لم يقع التوقف عندها لاستخلاص عديد الدلالات والاستشراف لتداعيات العولمة الفاعلة والإيجابية على مجتمعاتنا العربية. ومع هذا فإننا لا ندعو إطلاقا إلى عدم دراسة الأخطار الحقيقية للعولمة أو التغاضي عن سلبياتها المدمرة، إذ العولمة لا تعترف بالحدود ولا بالسلطة السيادية الوطنية ولا بالإيديولوجيات المبنية على الآحادية الفكرية ولا بالتراث الفكري أو الثقافي أو اللغوي، بل أن التوجه البارز اليوم هو أن المؤسسات متعدّدة الجنسيات، خططت للاستيلاء على الكون، قابرة بذلك عهد القوميات والخصوصيات الفكرية والدينية المختلفة، وهذا ما يعني حتما هيمنة قوة عظمى ونظام اقتصادي وسياسي وفكري وثقافي من خلال السعي إلى رسم حدود بديلة وانتشار قيم ثقافية حددتها الشبكات العالمية وأقمار الاتصالات، التي تعد سلاحا إيديولوجيا خطيرا، لتمرير هذه الاستراتيجيّة التي قضت بتجاوز الحضارات السابقة مهما كان ثقلها وأهميتها وإنجازاتها على الصعيد الكوني أمثال الحضارات الصينية والعربية - الإسلامية والأمريكية-اللاتينية والهندية وحضارات الشرق الأقصى وغيرها ذات المدلولات الفاعلة في تطور الإنسان عبر العصور.
إن الايديولوجيا الأورو-أمريكية قائمة على مكونات حداثتها وتسعى بمنهجية على تسطيح العقل البشري بأسلوبها وفقا لمسلمات حداثتها والمنادية الى تقديس سلطة القانون واستقلال المؤسسة القضائية ثم ممارسة الديمقراطية المسؤولة والمستديمة ثم تبني الليبرالية الاقتصادية والتجارية والحضارية، دون هوادة، كمعايير جديدة للتطور البشري عموما. وقد شكّلت كل هذه المبادئ الأساسية ما اصطلح عليه بالنظام العالمي الجديد للحضارة الكونية، ومورست بعنف وبدقة متناهية وكانت من نتائجها خلخلة المجتمعات التاريخية (التقليدية) وضربت هوياتها الحضارية وعمقت هوة تخلّفها بإحداث شرخ عميق جدا في معتقداتها وممارساتها وثوابتها، وهي التي تأسّست عبر الأجيال، وهذا هو ما عدّ تهديدا مباشرا للأمن الثقافي العام للبلاد العربية. وعليه أصبح التوجه ثابتا نحو نفي الدولة وتأسيس عالم بدون وطن أو أمة، وفرض نمط جديد من القيم والمعايير، وهو ما اعتبر عدوانا حقيقيا على العالم الثالث بأسره (17). ألم تصرح Albright وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1999 "نحن الأمة الضرورة، ونحن الأعلى وعليه فنحن نرى أبعد من غيرنا.." (18).
وهذا ملف شائك ومعقد جدا وتضاربت حوله الآراء والمواقف شرقا وغربا. فلنتوقف الآن حول تداعيات العولمة على الهوية الثقافية العربية.
الهوية الثقافية العربية أمام محك العولمة وتحدياتها العديدة
إن المنطق الاستعلائي الهجومي الممارس ضد مختلف الشعوب والأمم، ساهم في التطاول على الثوابت الدينية والعقائدية للديانات والعقائد في العالم العربي-الإسلامي وتحقيرها عبر كلّ الوسائل السمعية البصرية والأقمار المعولمة والتي تبث على مدار الأيام، الكثير من التضليل والتزييف والأباطيل ضد الآخرين، ونشر الرعب والخوف والحذر من كل الفئات والأفراد والجماعات والأمم التي تقف صامدة للدفاع عن هويتها الثقافية وتراثها وذاكرتها الحضارية الجماعية (19).
يتبع
هوامش
(1) Amartya Sen, Identité et Violence
(الهوية والعنف) ص 172، منشورات Odile Jacal باريس، 2006. والمؤلف حائز على جائزة نوبل للاقتصاد.
(2) أخص بالذكر هنا قناتي الجزيرة والعربية، حيث بثت هذه الأخيرة خلال الأسبوع الأخير من الشهر الماضي (ديسمبر 2007) حلقة دعي لها اقتصاديون ورجال أعمال وغيرهم من غير المتخصصين؟
(3) لقد استحال على الجميع، مراكز ومؤسسات دولية بما فيها مؤسسة فوفل، أن تكثف العناوين الصادرة حول ملف العولمة، تبعا لأماكن صدورها، وهذا ما يترجم عن استحالة الملاحقة لهذا الملف الدقيق جدّا، والذي مازال وسوف يبقى إلى زمن يعيد، أحد الإشكاليات المستقبلية لدراسة تداعياتها العديدة على العالم أجمع.
(4) كنا قد قدمنا بحثا في مؤتمر عقدته جمعية الدعوة الإسلامية العالمية بطرابلس وعنونا ورقتنا: "أية استراتيجية للهوية القومية تجاه العولمة ؟"، ونشرت في التاريخ الإسلامي وأزمة الهوية، ص 63-69، طرابلس 2000.
(5) التاريخ الإسلامي... نفس المصدر، ص 496، من تعليقنا في النقاش العام.
(6) الشاذلي العياري، السيادات الوطنية في مواجهة العولمة : صراع غير محسوم، ص 39، منشورات المؤلف، تونس؟
(7) راجع بهذا الخصوص المقال الجيد الذي حررته من واشنطن السيدة سوزان كينزي والذي ظهر بجريدة الشرق الأوسط بتاريخ 1 يناير 2008 تحت عنوان : الأنترنيت توفر التعليم العالي مجانا وعشرات الملايين ارتبطوا بالفصول المفتوحة في الجامعات الأمريكية.
(8) لعل د.نزهة الخياط كانت من الأوائل التي آمنت بهذا الأمر وأثارته أثناء عقدنا للمؤتمر الثاني للحوار العلمي الخليجي-المغاربي والذي عقد بالرياض في شهر فيفري 2005 وقد وفقنا في تبني هذا الإعلان، الذي صدر بالفعل تحت اسم إعلان الرياض، راجع نص الإعلان المنشور في : التواصل التاريخي والعلمي بين دول الخليج العربية ودول المغرب العربي، ص 18-20، منشورات الدارة، الرياض، 2007.
(9) راجع بحثنا التالي: "تداعيات العولمة على التعليم العالي في البلاد العربية" في: المجلة العربية للأرشيف والتوثيق والمعلومات، ص 43-48، تونس 2005، عدد 17-18. وقد قدمت تحليلا بائسا ومفجعا للواقع الجامعي العربي وانتكاساته الخطيرة حتى اليوم. راجع أيضا كتابنا: أزمة البحث العلمي في تونس والبلاد العربية، 194ص. تونس 1999.
(10) Paul Passe, Nancy Michel, Fathi Triki, Unité diversité: Les identités culturelles dans le jeu de la mondialisation (الوحدة والتنوع: الهويات الثقافية تجاه العولمة)، ص 39، باريس 2001.
(11) Amartya Sen، نفس المصدر، ص 173.
(12) محمد علاء الدين ماضي أبو العزائم، النظام المادي الجديد والاستلاب الحضاري، في التاريخ الإسلامي.. نفس المصدر، ص97. يؤكد هذا الكاتب : إذا كان (الأوربيون) هم الآباء فنحن الأجداد الذين أخذوا عنا وتعلموا منا ..."؟
لا تعليق لنا حول هذه المواقف التي لم تعد تجدى نفعا أمام المتغيرات العولماتية الرهيبة التي يعرفها العالم أمام سكونية البلاد العربية والإسلامية الغارقة جلها في الإيديولوجية الماضوية؟
(13) انطوان زحلان، العرب والعلم والثقافة، ص 97، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1988.
(14) يحي اليحياوي : العولمة الموعودة: قضايا إشكالية في العولمة والسوق والتكنولوجيا، ص 106، منشورات عكاظ، الرباط، 1999.
(15) p. 113(الهوايات القاتلة)Amine Maalouf: Les identités meurtrières
منشورات باريس، 1998.
(16) الشاذلي العياري، نفس المصدر، ص 39.
(17) د.ابراهيم القادري بوتشيش، مستقبل الكتابة التاريخية في عصر العولمة والأنترنيت، ص 20، منشورات الزمان، الرباط، 2001.
(18) Mehdi El-Mandjara: Humiliation à l'ère méga-impérialisme
(التحقير في زمن الامبريالية المتعاظمة)، ص 41 وهذا نص التصريح:
"We are the indispensable nation.. we tall and hence see further than other nation".
(19) وفي هذا السياق من التعتيم والتضليل والغوغاء الدينية والتعصب الأعمى ما ذكره الجنرال وليام بيكين (William Boykin)" أن إلاهي هو الأقوى من إلاههم وأن إلاه المسيحيين هو إلالاه الصحيح وأن إلاه المسلمين، هو معبود عادي.. راجع بهذا الخصوص : Amartya sen، نفس المصدر، ص 38 هذا هو النص الذي كتبه ونشره في International Herald Tribune بتاريخ 27/08/2004 وإليكم النص الفرنسي المترجم: Je savais bien que mon Dieu était plus fort que le leur et que le Dieu des chrétiens est le vrai Dieu et celui des musulmans, une simple idôle".
إن مثل هذه المواقف المعادية والتي ثبت علانية على منابر المواقع الانترناتية المعولمة بعدة لغات، تكشف لنا وبشكل بارز عديد الحقائق المغيبة لمخططات العولمة السياسية والإقتصادية والثقافية والدينية والتي تهدف إلى فرض حتميتها الأساسية على العالم.
تونس في 6 جانفي 2008
* أستاذ متميز (Prof. Emérite) بجامعة تونس والمدير المؤسس لمؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات بتونس. راجع موقعها بلغة الضاد: عربي temimi.refer.org


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.