لم يكن العنف يوما حفيدا للتاريخ بهذا الشكل الذي نراه اليوم بين الشعوب والأعراق... فهو لم يعد حدثا عارضا أو مجرّد صدفة، بقدر ما هو إعلان عن إفلاس لخطاب الحداثة ولعقل الأنوار الذي بشّر الإنسانية بقيم العدل والحرية والمساواة في تحالف ضمني ومتستّر مع نزعة «كونية» مشبوهة لتصدير قيم الحرب والدمار، والموت العنيف الذي يحصد يوميا آلاف الناس في شكل قرابين بشرية يستمتع البعض برؤيتها في نشرات الأخبار وتقارير المخابرات. ليس من قبيل الصدفة إذن أن ينتشر العنف بمعنييه المادي والرمزي، الساكن والمتحرك في حضارتنا اليوم كاشفا عن شرخ في صميم العقلانية المعاصرة حتى بتنا نتحدث عن عقلانية مغدورة وعن نظريات للكوارث تبشّر بتطرّف العقل ومبالغته وتهويله لتعمّ الفوضى وبؤر التوتّر مكان الاستيعاب الموضوعي للأشياء والعلاقات البشرية في كنف علاقة حوارية، تواصل في نطاق الاختلاف العرقي والثقافي والقيمي. لا شك أنّ كونية القيم تعني فيما تعنيه كونية الحرية والخير والديموقراطية بماهي مطلب إنساني وبالتالي فهي ليست حكرا على أحد، ولا يمكن بأي حال من الأحوال ادعاء تحققها في لحظة ما أو ثقافة ما أو فترة تاريخية ما، لتعدل العصور الأخرى وفقها، مركزا وأطرافا نموذجا ونسخا، غربا وشرقا، متحضرا وبربريا، مواطنا وإرهابيا حداثة وتخلّفا، أبيض وأسود... إلخ. إن ما نراه اليوم من عنف في الخطاب والممارسة يكشف لنا عن إفلاس دعاة الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان الذين يتخفون في «جلباب» العولمة، عولمة الموت والجوع والتناحر العرقي، عولمة السجون وأرقى تقنيات «المراقبة والمعاقبة» لإعادة انتاج المختلف ثقافيا - والذي يوصف بالإرهابي والشرير وغير المتعاون وفق مصطلحات الخارجية الأمريكية في تصنيفها للبشر والدول - من جديد كفرد طيع وشعب طيع تطمس كل قيمه تحت قصف الدبابات اليومي. إن عولمة الموت واغتيال المختلف والحديث عن صدام الحضارات أو الأديان إنّما هو مؤشّر لاتساع رقعة العنف اليوم ليصبح العقل تحدده الرغبات والمصالح ولعبة التوازنات في استبعاد واضح لكل قيم التعايش البشري والتعاون الحقيقي بين الشعوب خاصة منها الفقيرة التي تعاني يوميا عديد الأخطار التي تهددها من الماء إلى الغذاء إلى الأوبئة والتصحّر والصراعات العرقية وتناحر أمراء الحرب وتنافس بارونات السلاح لمزيد خلق وإذكاء نار «الفتنة» بين أبناء الشعب الواحد والهدف طبعا رفع أرصدتهم من الأموال. إننا اليوم مدعوون لمراجعة مفاهيم من قبيل «نهاية التاريخ» للوقوف على الخلفيات الحقيقية لهذا الخطاب العنيف، لرصد أسسه، دواعيه وغاياته كي لا نقع ضحية الخلط بين الكوني الحقيقي والكوني المشبوه، كما نحن مدعوون اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى إلى نزع رداء التعصّب ونفض رمال التصحير الجماعي وإعادة انتاج وتكثيف الانفعالات الإيجابية كي لا نسقط في التهويل والتطرّف الذي يتهدّدنا باستمرار ويهدد التعايش البشري حتى تكف الإنسانية عن بناء الجدران الفاصلة باسم الأمن واحتلال الدول باسم الديموقراطية وعولمة الوهم باسم الحقيقة.