مثلما تعددت مبادرات الحوار السياسي في الآونة الأخيرة..تعددت أيضا مظاهر العنف السياسي والاحتقان الاجتماعي وتنوعت أشكالها..وتصاعدت وتيرتها بشكل ينبئ بحصول الأسوأ في صورة عدم التدارك وتطويق الظاهرة قبل فوات الأوان. ففي الوقت الذي ننتظر فيه -في كل مرة- انفراجا في المشهد السياسي في تونس المتوتر أصلا والمتأزم والمشحون إلا وتندلع حالة عنف هنا أو هناك..في أشكال مختلفة وذات مقاصد متعددة منها الاعتداءات على مقرات الأحزاب، أو على اجتماعات سياسية حزبية، أو على أفراد من شخصيات قيادية سياسية، واعلاميين، ومثقفين، وفنانين..ولم تسلم المؤسسات العمومية من العنف والتخريب..هذا دون نسيان مظاهر الاحتقان الاجتماعي في عدة مناطق مهمشة التي عادت بقوة من جديد خلال الفترة الأخيرة.. الأمثلة على حالات العنف السياسي عديدة مثل الاعتداء الذي تعرض له في رمضان الماضي الأستاذ عبد الفتاح مورو القيادي في حركة النهضة من قبل أحد العناصر المحسوبة على جهات سلفية، وهو الذي كان يحاضر في ندوة حول التسامح الديني، أو ذلك الاعتداء بالعنف الشديد الذي تعرض له أحمد نجيب الشابي خلال زيارة قام بها قبل اسابيع إلى احدى مناطق الشمال الغربي. وقبلها اعتداءات طالت قيادييين في أحزاب سياسية وحتى أعضاء بالمجلس التأسيسي مثل مية الجريبي، محمد ابراهمي.. الخطير في الأمر أن العنف اتخذ شكلا تصاعديا ليتجاوز العنف اللفظي الخفيف إلى العنف المادي الدموي، والتخريب الممنهج، كما تعددت حالات العنف الشديد ولعل آخرها الاعتداء الذي تعرض له أول أمس ابراهيم القصاص عضو المجلس التأسيسي، خلال اشرافه على اجتماع عام حزبي بصفته عضوا قياديا بحركة نداء تونس. لكن ما يلفت الانتباه هو أن الحوار الذي تنادي به أحزاب ومنظمات لم يحقق الشيء الكثير وما يزال محتشما وظل يتأرجح بين المد والجزر، ففي كل خطوة ايجابية يتم قطعها في اتجاه تجسيم مبادرات الحوار ولعل أهمها على الآطلاق مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل، إلا ونسجل معها خطوتان إلى الوراء حين تبرز فجأة وعلى حين غرة، حادثة عنف سياسي جديدة تنضاف إلى الحالات المتراكمة الأخرى.. إن بلادنا ما بعد الثورة وفي مرحلة انتقالية حساسة وقبل أشهر قليلة من موعد انتخابي مهم لم تحدد معالمه بعد، ما تزال تعيش ارهاصات ما بعد الثورة، وما زال النفس الثوري يلهب مشاعر الناس، وهو السبب الذي -ربما- زاد في ارتفاع درجة محرار المشهد السياسي لارتباطه بأجندات انتخابية مع ما تتطلبه من حشد وتأييد وتعبئة الأنصار، من شأنه أن يولد حماسة هذا الفريق أو ذاك خاصة إن تعمدت القيادات السياسية اطلاق عنان التصريحات النارية وتخوين خصومها وشيطنتهم.. الأمر إذن أشبه بمن يصب الزيت على النار، أو من يجد متعة في اذكاء نار الفتنة، ولا يريد لها أن تخمد أو تهفت.. وزد على ذلك لجوء الحكومة في بعض بؤر التوتر إلى الحل الأمني في تعاطيها خاصة مع حالات العنف الناجم عن احتقان اجتماعي، بل وخلق التعاطي الأمني العنيف ردات فعل عنيفة عكسية..والأمثلة عديدة (صفاقس، الشابة، سيدي بوزيد، قصر هلال، الحنشة..) كما أن التراخي في معالجة بؤر توتر أو عدم احالة بعض مرتكبي العنف إلى القضاء حتى ينالوا جزاء ما اقترفوه..شجع على نمو الظاهرة وخلق جوا من الحقد والغضب والرغبة في رد الفعل.. أذكر أن عددا من القادة السياسيين والحكماء والشخصيات الوطنية حذرت أكثر من مرة وفي أكثر من منبر اعلامي او سياسي من خطورة تنامي مظاهر العنف التي قد تؤدي في صورة عدم احتوائها والبحث في جذورها إلى انفلات أمني - لا قدر الله- شبيه بالانفلات الذي حصل خلال الثلاثة الأيام الأولى التي تلت 14 جانفي 2011. من ذلك أن الشيخ مورور دعا -حين كان ضحية عملية اعتداء بالعنف الشديد- (ضرب على راسه بكأس ماء) إلى اطلاق حوار وطني حول العنف السياسي، لكن لم يتم حسب علمي التفاعل مع مقترحه، بل زادت وتيرة العنف وزادت من سرعتها في ظل أداء سلبي، وغياب مقيت للإطارات السياسية من مختلف الأحزاب، سواء كانت في الحكم او خارجه، ووصل الأمر حد الهجوم على سفارة الولاياتالمتحدةالأمريكية وحرق جزء منها، وجزء من المدرسة الأمريكية احتجاجا على فلم خبيث انتجه عنصري تافه وتناقلته شبكات التخابر العالمية لغايات جهنمية مكشوفة وغير مكشوفة..لكن الأهم في الأمر أن تداعيات ذلك العنف دفعت تكاليفه المجموعة الوطنية، وراح ضحيته اربعة تونسيين. إن في تصاعد مظاهر العنف مهما كان شكله (اضراب جوع، اقتحام مؤسسات،..اعتداء على قياديين سياسيين..) أمر خطير لا بد من وقفه ومن معالجته فورا ودون تردد ومحاسبة كل معتدي وخارق للقانون على قدم المساواة، لأن في ترك الحابل على الغارب ستكون النتائج وخيمة على الجميع. لا بد من الاسراع في الجلوس على طاولة الحوار والتأسيس للوفاق الوطني، فنحن في أمس الحاجة إليه، اليوم قبل الغد. ولتكن مبادرة اتحاد الشغل للحوار -التي اقنعت على ما يبدو الحكومة- قاعدة انطلاق الحوار.. يكفينا شعارات ويكفي الشعب التونسي التطاحن والتصادم السياسيين فقد مل وطال صبره..ولنبدأ بحوار سياسي جدي ومسؤول ينهي الأزمة وشبح الفتنة الذي -شئنا أم أبينا- تستغله وتذكيه اطراف خارجية لا تريد الخير لتونس ولا ترغب في نجاح المرحلة الانتقالية والتأسيس لدولة مدنية ديمقراطية الاسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها، وللتوافق على دستور لا يخيب آمال من استهشدوا في سبيل الحرية والكرامة الوطنية، ويحقق جل أههداف ثورة أحرار تونس، ويلبي طموحات اجيال وأجيال وقابل للاستمرار سنوات طويلة.. رفيق بن عبد الله