ديناميكية متجمدة.. ودور الدولة في الميزان تمر تونس اليوم بمفترق استراتيجي كبير، لا يعكسه مستوى الجدل السياسي "العقيم" فقط (الذي لا يعطي حلولا مستعجلة للأزمة السياسية)، بل أكثر ما يميزه هو المستوى السياسي الذي تدار به أجهزة الدولة ما بعد الثورة من طرف الحكومة الانتقالية الوقتية وكذلك المستويين الاجتماعي والاقتصادي، إذا ما اعتبرنا أن هذين الأخيرين هما المحوران اللذان يدور حولهما الصراع السياسي القائم بين مختلف الفرقاء السياسيين بمختلف مشاربهم الايديولوجية. المعركة -كما يبين الشريط المسرب للشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة- معركة إيديولوجية فكرية بالأساس بدأت تأخذ منحى كبيرا على مستوى العمل الميداني ووصلت إلى تبني النخبة الفكرية التونسية لمصطلح "العنف السياسي" للتعبير عنه. خطاب الشيخ يعكس نَفَسَ "عسكرة السياسة" وهو أمر خطير للغاية إذا ما عرفنا أن الشيخ تحدّث عن معسكرين (علماني وإسلامي) ومن "سينتصر" منهما على الآخر وليضيف إلى جملة حججه ما حصل في الجزائر خلال العشرية السوداء، واعتبار ما حصل "خسارة كبيرة للإسلاميين ضد العلمانيين". وللتذكير فإن العشرية السوداء كلفت الجار الجزائري 200 ألف قتيل. فهل يمكن مقارنة ما قاله الشيخ وما نعيشه في تونس من أزمة سياسية؟
صراع بين الوفاق النظري والممارسة
بمنطق علم الاجتماع السياسي فإن من أكثر ما أفرزته الثورة هو "انفجار" سياسي كبير وجد طريقه سريعا في المجتمع التونسي. هذا الانفجار السياسي ساهم إلى حد بعيد في بروز "تصدعات" كبيرة على مستوى التعايش والتفاهم الاجتماعي بين مختلف الحساسيات السياسية. وهذا الواقع الاجتماعي والسياسي هو الذي ساهم إلى حد بعيد في الفترة الفاصلة بين الثورة وانتخابات المجلس التأسيسي، بنشوء فترة سياسة حرجة، خاصة في طريقة التفاهم بين مختلف الأحزاب السياسية، وتقريب الرؤى بعد انتخابات المجلس التأسيسي، رغم بعض الإيجابيات التي أتت بها الفترة الأولى وخاصة من حيث التأسيس لمؤسسات يمكن أن تساهم في بناء الديمقراطية (الهيئة المستقلة الوقتية للانتخابات، الهيئة الوقتية لاصلاح الإعلام..)، بعد أن نجحت في جمع مختلف الحساسيات السياسية حول أهداف محددة أدرجت ضمن وثيقة المسار الانتقالي والذي ينص صراحة على التوجه نحو الديمقراطية. لكن رغم هذه المعطيات النظرية التي أتت ضمن توجه عام، لم يعكس ما حصل على المستوى الميداني تلك النظرة الوردية لتونس الديمقراطية، التي تؤمن باختلاف الرأي كركيزة للديمقراطية، وبضرورة الوفاق للوصول إلى هذا الهدف السياسي المنشود، إذ تبين سريعا أن ما جاءت به انتخابات المجلس التأسيسي، والذي كان من حيث المنطلق التأسيسي لمؤسسات الدولة الديمقراطية الحديثة، نقطة نظرية ممتازة إذا ما أخذت من منظور التأسيس الزمني ل"جمهورية ديمقراطية"، قد تم تجاهله تقريبا، وأن السلطات التي أتت من رحم انتخابات المجلس التأسيسي لم تكن لها -للأسف- الإرادة السياسية اللازمة للمضي قدما نحو التأسيس الفعلي والرسمي لتلك المؤسسات والتي يمكن اختصارها في قضاء مستقل يحقق العدل والمحاسبة، وإعلام حر ينقد ويراقب ويكشف العورات ويقدم حلولا، ومجلس تشريعي يدرس القوانين ويناقش السلطة التنفيذية بشأن أدائها ويكتب دستورا يؤسس لجمهورية ديمقراطية، بل وجهت اهتمامها أكثر إلى تثبيت أقدامها في السلطة مستفيدة من طرح الأغلبية والأقلية في المجلس التأسيسي وورقة الشرعية الانتخابية، فيما ركزت المعارضة على لعب دور الناقد اللاذع والمناور في قضايا سياسية كبيرة، وهو دور تعدته في أحيان كثيرة لتصيد من بحيرة الحكومة، وتلعب على أخطائها التي كثرت، بل وأضرت بصورة "تونس الثورة" في الشرق والغرب.
ديناميكية سياسية سلبية
إن أيّة فترة انتقال سياسي يرجى أن تكون متوجة بالديمقراطية هي بالأساس مرحلة وفاق لا مرحلة اختلاف بين الأغلبية والأقلية الممثلتين لسلطة الشعب في المجلس التأسيسي المعني بتحقيق أهداف الانتقال السياسي، بما فيها تدعيم مصطلح المواطنة، والمشاركة في الحياة السياسية التي تتميز بها أيّة مرحلة انتقالية. ولعل أي مسار انتقالي يستوجب التفاهم والاحترام بين مكونات المشهد السياسي، دون أن يعني ذلك انتفاء الصراع السياسي الذي يكمن في تعدد البرامج على أسس فكرية معينة، والذي يستهدف منه كل طرف سياسي التعبئة لبرامجه ورؤيته للحلول في ما يتعلق بالاشكاليات الاجتماعية والاقتصادية. إن ما تميزت به الفترة الثانية لعملية الانتقال السياسي في تونس، هو ظهور الخطاب الشعبوي وبروزه على سطح الأحداث ذلك الخطاب الذي برز في عدة أحداث كان له دور كبير في فوران المجتمع، مما تسبب في ديناميكية سياسية سلبية، أفرزت في مرحلة ما تراجعا في هيبة الدولة أمام تحركات فئوية أضرت بمصالح الدولة الداخلية والخارجية (حادثة السفارة الأمريكية، حادثة مهرجان ربيع الفنون..). تلك الحوادث تسببت سياسيا في تعميق "خطوط الصدع" (مصطلح مأخوذ بتصرف من صمويل هنتنغتون في كتابه "صدام الحضارات") بين مختلف الحساسيات السياسية المتواجدة على الساحة، على أساس صراع إيديولوجي بين مكونات المجتمع، وهو ما يعكس حالة احتقان فكري بين مكونات المشهد السياسي في فترة الانتقال السياسي، والتي تمثل فيها الدولة ومؤسساتها، أداة إصلاح وتجديد، وفشل تنظيمي للسلطة في القيام بواجب التصدي لمظاهر العنف السياسي القائم على صراع ثنائيات فلسفية (المقدس والمدنس، علماني وإسلامي، داخلي وخارجي)، والذي لا تلوح فيه مؤسسات الدولة كحكم أو كمنظم للعملية بقدر ما تظهر فيه كمشارك فعلي في تحريكه.
ثنائية الصراع
إن الدولة، التي تتحكم في تسيير دواليبها حكومة شرعية لأنها متمخضة عن انتخابات تأسيسية، أصبحت بعد هذا الاستحقاق بمثابة جهاز متأدلج (من الإيديولوجيا) يعمل كآلة تابعة للأحزاب الثلاثة الحاكمة في البلاد والمعروفة ب"الترويكا"، والتي وصلت للسلطة بعد تحالف براغماتي -مصلحي بالأساس- ولم ينتخبها الشعب مباشرة، وهنا يكمن كنه الصراع السياسي الدائر في البلاد، والذي انتقل ليكشف عن وجهه القبيح في العنف السياسي. هذا الصراع كان بارزا في كلام الشيخ راشد الغنوشي الذي تحدث عن طابع ثنائي له بين ما أسماهم علمانيين وإسلاميين، أي أن ما تشهده تونس حاليا -بالنسبة للشيخ الموقر- هو صراع بين نموذجين: دولة علمانية جمهورية، ودولة دينية تحكم بالشريعة وليس بالدستور، وهو ما يتعين على حركة النهضة أن تفرضه -حسب الفيديو المسرب- حتى بطريقة مقنّعة. إن كلام الشيخ ونظريته للتدافع الاجتماعي القائمة على الصراع العنيف الذي يفرز في الأخير كتلة غالبة، تستطيع أن تفرض منطقها ومشروعها الاجتماعي على المشروع السائد وذلك في نطاق نخبة سياسية وثقافية تسعى للتغيير (مشابهة لحد ما لنظرية الكتلة التاريخية لغرامشي لكن بمنطلقات إسلامية)، يحملان أبعادا خطيرة ليس بوسع أحد إنكارها، لسبب بسيط وهو أن المسار الذي "يبشر" به ويستهدفه لا يمكن أن يقود سوى إلى تقويض الدولة لصالح مجتمع سياسي فوقي على حساب مجتمع سفلي محكوم، وهو ما لا يخدم أهداف الثورة التي تتوق إلى الديمقراطية.