لم يخف الفنان التشكيلي الطاهر عويدة تخوفه كمواطن وفرد من المجتمع التونسي مما آلت إليه الأوضاع في الفترة الأخيرة أو كفنان أصبح عمله الذي ترتزق منه عائلة متعددة الأفراد مهددا بممارسات تيارات فكرية وايديولوجية اعتبرها غريبة عن المجتمع التونسي المتجذر في الحضارة والتاريخ. في المقابل عبر عن تمسكه بموقفه الرافض لأيّ قوى تهدد مشروعه الفني والانساني والحضاري لأنه ينتصر إلى كل من يأمل في وطن جميل لكل التونسيين. الطاهر عويدة تحدث ل"الصباح" عن حالة الفراغ وشبه الخراب التي أصبحت عليها الفضاءات الثقافية والفنية وعن انتظارات ومكاسب أهل القطاع من ثورة الحرية والكرامة بعد سنتين من سقوط النظام البائد وغيرها من المسائل الأخرى في الحوار التالي: كيف تقيم تفاعل الجمهور أو المتلقي مع معارض الفنون التشكيلية في الفترة الأخيرة لاسيما بعد أن تعرض بعض الفنانين وتعرضت بعض المعارض إلى اعتداءات؟ أعترف أن المعارض والفنانين العارضين أصبحوا مهددين في أعمالهم وأجسادهم بقطع النظر عن نوعية الأعمال والمواضيع التي تتمحور حولها أعمالهم. يكفي أن أذكر آخر معرض أقمته تحت عنوان "تنوع" برواق سامية عاشور بسكرة واختتم منذ أسبوع. إذ لم يجد الاقبال المنتظر رغم قيمة الأعمال التي يشهد لها بالتميز في أوساط عالمية والدليل أني مدعو للحضور كضيف شرف في الصالون السنوي لجمعية "ايكويس" الفنية بمدينة ليموج الفرنسية في أفريل القادم. أين يتموقع إذن الفن التشكيلي في تونس بعد الثورة وهل استفاد أم تضرر مما تشهده بلادنا من تحولات؟ لقد تضرر الفن التشكيلي والفنون عموما بعد ثورة حسبناها وخلناها في قطيعة مع أزمة إبداع عاشتها البلاد على مدى عقود. وتحوّل الحلم الجميل إلى كابوس مزعج وهاجس حقيقي. ماذا كنتم تتوقعون بالتحديد من انعكاسات ايجابية على الفنون في البلاد؟ كنا نأمل أن تصبح تونس إحدى عواصم الفن التشكيلي في العالم على غرار أمستردام وباريس ولندن وغيرها. نظرا للحركية التي تشهدها سوق الفن في بلادنا وميلاد فضاءات خاصة جديدة للعرض ذات مقاييس عالمية. لكن ما راعنا إلا والقطاع وأهله يتعرضون لهجمة غير مسبوقة من ورائها حسب رأيي مشروع يهدف إلى نسف كل مكتسبات هذا المجتمع الثقافية ويهدد مقوماته الحضارية والتاريخية ويسعى إلى تغيير ملامحه. وما الهجمات المتكررة على الفنانين وفضاءاتهم وهدم بعض المعالم التاريخية التي تمثل جزءا من هوية هذا الشعب إلا دليل على وجود مؤامرة خطيرة الغرض منها تسطيح المجتمع فكريا وثقافيا وإطفاء جذوة الإبداع في أعماقه والزج به في غياهب التخلف. كيف تنظر إلى واقع تونس في ظل ما تعيشه في هذه المرحلة الانتقالية الحساسة من حراك غير مسبوق وأين الفنان والمثقف من كل ذلك؟ لا أخفي انشغالي العميق لما آل إليه الوضع من تدهور على جميع المستويات وكأن العهد الحفصي الواهن يعيد نفسه. ومما يثير الشعور بالمرارة والاحباط أن حالة التهميش المادي والمعنوي التي يعيشها الفنان والمثقف اليوم لم تتح لهذه الشريحة الهامة من المجتمع الفرصة للعب دورها المحوري المتمثل في صياغة ملامح الدولة المدنية الحديثة التي تعتبر الهدف الأساسي لثورتنا. فأين دور النخب المثقفة من جامعيين وباحثين وعلماء نفس واجتماع وفنانين وغيرهم من الطاقات الخلاقة من مراكز الفعل والقرار التي استأثر بها الساسة والانتهازيون الذين لم يبرهنوا إلا على الفشل الذريع والاستماتة في الدفاع عن هذا الفشل الذي جعل البلاد على حافة الهاوية. ما الذي تعيبه على الفنان التشكيلي في تعاطيه مع هذه المرحلة؟ الفنان التشكيلي ضحية سياسة ممنهجة هَمّشت دوره في المجتمع وجعلته أمام أمر واقع عبر عنه المثل الشعبي "كل شاة معلقة من كراعها" فحتى الهياكل والجمعيات المشرفة على أنشطة التشكيليين من "اتحاد" و"نقابة" و"رابطة" زادت الطين بلّة وانعكس ذلك في شكل تجاذبات سياسية وأصبحت أدوات لتقسيم صفوف الفنانين لا لتوحيدهم لاسيما أن سلطة الإشراف لم تلعب الدور التنظيمي للقطاع في مرحلة سياسية واقتصادية حساسة وصعبة وعلى هذا الأساس لا يمكن الحديث عن فنانين ومبدعين بل عن أطراف من المجتمع المدني يبحثون في خضم هذا الحراك عن توازنهم المفقود. ولعل الورشة وأدوات العمل أحسن ملاذ في جميع الأحوال والكل يأمل في وطن أجمل. سبق أن عبرت عن خوفك من أن تتحول ذات يوم إلى لاجئ ثقافي فهل مازلت مسكونا بهاجس الخوف هذا؟ بعد مغامرة فنية دامت أكثر من عشر سنوات حملتني للعرض في عديد الدول الأوروبية قررت طوعا الابقاء على معرض واحد سنويا في الخارج والبقاء بتونس لأساهم من موقعي كفنان بتجربتي المتواضعة في إثراء المشهد التشكيلي التونسي والاستفادة منه. ولعلي لم أكن صائبا في اختياري هذا خاصة بعد ما آلت إليه الأوضاع في الأسابيع الأخيرة إذ فقدت الفضاءات الثقافية بالبلاد اشعاعها وغاب رواد الأروقة وأصبح العمل التشكيلي نشازا في ظل ما استحالت إليه الفضاءات العامة وأرصفة العاصمة خاصة من مظاهر تشعرنا بغربة عن الزمان والمكان على غرار شارع الحرية في مستوى جامع الفتح وغيره من الأماكن الأخرى وهاجس خوفي ليس على شخصي كفرد بل على مجتمع وأنا فرد منه. معروف عنك أنك فنان تستلهم أفكارك ورؤاك الفنية في مجالات إبداعية أخرى على غرار الشعر والموسيقى وغيرها فكيف تجسد ذلك؟ أنا من عشاق تونس حتى النخاع ولا أجد غير أبي القاسم الشابي معبرا بالكلمات عن عشقي هذا في قصائد "تونس الجميلة" و"يا ابن أمي" وغيرها من القصائد التي بلورتها في لوحات فنية. ولا أجد غير الفنانة الراحلة علية ورائعة بني وطني لتعبّر عن غيرتي على هذه الأرض. لأني لا أستلهم إلا من الأعمال التي تدافع بأكثر صدق عن المكاسب التي ضحى من أجلها الشهداء وبالتالي ليس لي من خيار سوى أن أساهم ولو ب"حبة رمل" في بناء هذا الوطن وسأرسم لوطني ولو بدمي.