لئن شكل مشروع مسودة الدستور خلال الأيام الأخيرة ولا يزال حفيظة عديد الجهات السياسية الوطنية أو داخل الأوساط الثقافية والاجتماعية لأسباب عديدة تعلقت بالشكل والمضمون وهو محل تجاذب فإن مسألة الحريات والحقوق في الإبداع والفكر وحرية الرأي مثلت مشغل كل الأطراف والهياكل المهنية والحقوقية والمجتمع المدني لاسيما بعد الأحداث الخطيرة المسجلة في بلادنا وكان ضحيتها مثقفين وفنانين ومبدعين وإعلاميين طالت تداعياتها أشخاصا وهياكل وممتلكات عامة وخاصة. لذلك نظمت جمعية منتدى الجاحظ يوم أمس بأحد النزل بالعاصمة ندوة تمحورت حول "دسترة المسألة الثقافية: آثارها ورهاناتها" ليكون مشغل هذه الندوة مثلما دأب على ذلك المنتدى منذ بداية نشاطه بالاهتمام والخوض في المواضيع الشائكة وطرح المسائل الفكرية ذات الأبعاد الاجتماعية والوطنية الحارقة مثلما أكد ذلك صلاح الدين الجورشي رئيس الجمعية في تقديمه للندوة. كما أرجع سبب تكرر الصدامات الحاصلة في المجتمع التونسي بمختلف أطيافه إلى غياب وتهميش الحركات الثقافية مقابل احتكار السياسيين للمشهد العام. لأنه يرى أن ثورة دون عمق فكري وهواجس إبداعية لن تؤدي إلى نجاح الثورة وتحقيق أهدافها على الوجه المطلوب. ولم يخف صلاح الدين الجورشي موقفه الداعي إلى ضرورة دسترة المسألة الثقافية وكل متعلقاتها الإبداعية لأنه يعتبرها مسألة جوهرية وأساسية في المسار الديمقراطي والتنموي لتونسالجديدة. وشارك في طرح مسائل هذه الندوة بعض من اشتغل حول هذه المسالة في صلب المجلس الوطني التأسيسي على غرار أحمد السميعي المقرر المساعد للجنة الحقوق والحريات في مداخلة عنونها ب" احترام الحقوق الثقافية ركيزة أساسية لبناء السلم في العالم". واختار مراد العمدوني في مداخلته أن يقدم شهادات حية من داخل اللجنة. فيما تطرقت مداخلة مصطفى المصمودي التي تمحورت حول" الحق في الثقافة:تاريخ وآفاق" إلى أبرز المواثيق والمعاهدات الدولية والإقليمية التي نصت على الحريات والحقوق الثقافية والإبداع كمسائل ومطالب وحقوق كونية أساسية للإنسان في وجوده على الدول التعهد بضمانها لكل مواطنيها. واعتبر البعض في إدراج الحقوق الثقافية كحق دستوري يجذر مشروع الثورة التونسية ثقافيا وفكريا وقيميا هاملا يشجع على الفعل الثقافي ممارسة وانتاجا للأفكار وإبداعا للأشكال مما يدعم إمكانيات ترسيخ ثقافة وطنية تكون دعامة وسندا في بلورة منوال تنموي بمضامين إنسانية واجتماعية. بين النظري والواقعي تم التمهيد للندوة الفكرية (ومباشرة بعد كلمة الافتتاح) بعرض شريط وثائقي من إنتاج المنتدى بعنوان "برج النور.. قرية التفكير"وهو شريط قصير مدته 14 دقيقة يطرح النقائص وغياب موارد التنمية التي تعيشها هذه المنطقة التابعة لولاية منوبة ومظاهر الفقر والخصاصة والتهميش التي يشكو منها أبناؤها من خلال شهادات حية لبعض متساكني الجهة وفسح المجال للاستماع لمطالبهم التي تركزت حول تهيئة المدرسة الابتدائية وبعث دور شباب وثقافة بالجهة فضلا عن وسائل النقل والاتصال الحديثة كالأنترنات على اعتبار أنها مرافق أساسية للمشروع التنموي وتطور الجهة على جميع الأصعدة. وشدد مصطفى المصمودي المختص في علم الاتصال والذي شارك في أشغال عديد اللجان والمنظمات الدولية التي تعنى بالحقوق والحريات على ضرورة مراعاة جملة هذه المطالب التي رأى أنها تختزل العناصر الأساسية للتنمية والعيش الكريم التي تنص عليها المواثيق والمعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان وحق الشعوب في التمتع بحياة حرة وكريمة. وتوقف عند الحقوق الثقافية التي تضمنتها أغلب الدساتير الدولية التي تم إعدادها في بعض البلدان الأوروبية بعد الثمانينات أو في غيرها من المواثيق والتجارب الدولية التي خيّر الاستشهاد بها على اعتبار أنها مقاربات مشابهة للمطلب التونسي في هذا الشأن على غرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إثر الحرب العالمية الثانية والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر سنة 1966 وغيرها من المحطات التاريخية الاخرى. وفي نفس السياق النظري واصل أحمد السميعي عضو المجلس الوطني التأسيسي الاستشهاد تقريبا بنفس التجارب والمعاهدات الدولية التي دعت إلى ضرورة ضمان الحقوق الثقافية وعملت على بعث هياكل دولية وإقليمية تنهض بنفس الهدف واعتبر المقرر المساعد للجنة الحقوق والحريات أن للثقافة مفهوم متطور ينقسم إلى جزءين أحدهما نخبوي والآخر شامل لا يرى مانعا في الربط بينهما. من جهة أخرى تطرق مراد العمدوني إلى الجانب الواقعي في كل ما يتعلق بدسترة المسألة الثقافية في بلادنا وذلك بأن تعرض إلى بعض حيثيات الجلسات داخل لجنة الحقوق والحريات والوقوف عند آلية عملها ليبيّن أنها تتركب من 22 عضوا تسعة منهم من حزب حركة النهضة وأربعة من حزب المؤتمر من أجل الجمهوية وعدد قليل من بقية الأعضاء من خارج الكتل. كما أوضح أن المشكل الذي واجهه كعضو وحيد من خارج الترويكا او بقية الكتل من صعوبات في بحث صيغ توافق أو اتفاق حول بعض الفصول والنقاط الهامة في الدستور خاصة فيما يتعلق بالمسألة الثقافية والفكرية والإبداعية. واعتبر مراد العمدوني في لجوء اللجنة إلى الاستماع إلى شهادات من خارج اللجنة تمثلت في بعض أهل الاختصاص حول بعض المسائل من العوامل التي صعبت مهمته كمثقف تونسي ينتصر للحريات الإبداعية ويناهض كل قيد أو شرط ليس له ما يبرره قانونيا. واستدل في ذلك برأي الفاضل الجعايبي ولكنه في المقابل نزهه من أن يكون متواطئا مع الأطراف التي تسعى لتقييد الحريات والحقوق الثقافية والإبداعية قائلا:" أنا أنزه الفاضل الجعايبي من أي نوايا لأنه هو المتضرر في نهاية الأمر." كما اعتبر مراد العمدوني تجاوز الهيئة المشتركة لما صادقت عليه لجنة الحقوق والحريات اعتمادا على مبدأ التصويت والعودة إلى اعتماد مشروع الدستور الذي قدمته كتلة معينة يعد خطيرا في حق تونس الثورة وانتظارات المواطنين لأهدافها بعيدا عن التأويلات والقراءات الإيديولوجية او المصلحية الحزبية الضيقة. وفيما يلي المسائل التي تم الاتفاق عليها في الفصلين 26 و32 باعتبارهما محل اختلاف: الفصل 26 : 1 حرية الرأي والتعبير والإعلام والإبداع مضمونة. 2 لا يجوز الحد من حرية الإعلام والنشر إلا بموجب قانون يحمي حقوق الغير وسمعتهم وأمنهم وصحتهم. 3 لا يمكن بأي شكل من الأشكال ممارسة رقابة سابقة على هذه الحريات. 4 على الدولة تشجيع الإبداع الفني والأدبي بما يخدم الثقافة الوطنية وانفتاحها على الثقافة الكونية. 5 الملكية الفكرية والأدبية مضمونة. الفصل 32 تضمن الدولة الحق الثقافي لكل مواطن. 1على الدولة التشجيع على الإبداع الثقافي إنتاجا واستهلاكا بما يدعم الهوية الثقافية في تنوعها وتجددها ويكرس قيم التسامح ونبذ العنف والانفتاح على مختلف الثقافات والحوار بين الحضارات. 2 تحمي الدولة الموروث الثقافي وتضمن حق الأجيال القادمة فيه. وقد أجمعت أغلب أغلب المواقف والمداخلات على ضرورة تنصيص الدستور على الحقوق الثقافية وحرية الإبداع بمختلف أشكاله لكونها ضمانة كل المواطنين في التمتع بمعطى أساسي في الوجود والتنمية.