عرفت مسالك التوزيع الرسمية على اختلاف أدوارها ومواقعها اضطرابا هاما تسبب في شل دورها الرئيسي في التوزيع المنظم لجملة المواد الاستهلاكية الأساسية من أنواع الخضر والغلال واللحوم والسمك على وجه الخصوص، مما فسح المجال واسعا أمام أسواق موازية وانتصاب فوضوي رغم أن القوانين واضحة في هذا الجانب وتلزم كافة المزودين من فلاحين وتجار وباعة التفصيل الناشطين في هذه المجالات بالتزود من هذه المسالك دون سواها، وأن أي خلل في هذا الجانب يعرض صاحبه للتتبع. لكن ومنذ ما يقارب السنتين اختلط الحابل بالنابل، وأصبح النشاط التجاري في المواد المشار إليها آنفا غير خاضع لمساره العادي فبات تجار التفصيل يتزودون مباشرة من الفلاحين دون المرور بأسواق الجملة، وظهرت أسواق يومية على قارعات الطرقات والساحات العمومية وتكاثرت مظاهر الشاحنات المتجولة القادمة من المناطق الفلاحية لتزويد تجار التفصيل على مرأى ومسمع من الجميع، وبذلك انخرم نشاط المسالك التجارية الرسمية وعرفت جملة من التجاوزات دون ضوابط تذكر. هذا الواقع الذي تميز به نشاط سوق المواد الاستهلاكية الأساسية فرض أنماط تعاملات جديدة تميزت بالاحتكار للعديد من المواد على غرار البطاطا والبصل والبعض من أنواع الخضر الورقية مثل المقدونس وغيرها من أنواع الغلال التي قل حضورها في الأسواق وارتفعت أسعارها بشكل جنوني نتيجة ما شملها على وجه الخصوص من أساليب (بيع المراكنة) على وجه الخصوص، وقد أدى هذا الواقع إلى ارتفاع أسعار كافة هذه المواد مما جعل العديد من المواطنين وخاصة منهم ضعاف الحال لا يقدرون على شرائها. والآن وبعد أكثر من سنتين مضت على ثورة 14 جانفي يتأكد للجميع أن واقع الأسواق يسير نحو التدهور لتسيطر عليه بعض اللوبيات التي تعرف اليوم بأنها من أنواع " اثرياء الثورة"، وأن هذا الواقع قاد رويدا رويدا إلى مزيد تدهور المقدرة الشرائية للمواطن تحت الضغط المتواصل بخصوص الترفيع في الأسعار وغياب المراقبة والتسلط والعنجهية التي يمارسها الناشطون في هذا المجال. ولعل الغريب في الأمر أن وزارة التجارة لم تحرك ساكنا، وأن مسكناتها ما عادت تنفع المواطن الذي بات يتبرم من ارتفاع أسعار هذه المواد، كما أن خططها في ضرب الأسواق الموازية والتصدي لنشاطها غير القانوني بات يحاط بجملة من المبررات التي يسوّقها المسؤولون في الوزارة تحت غطاء البحث عن موارد رزق للعاطلين عن العمل، وعدم قدرة المراقبين التابعين لها على حصر التجاوزات وتطويقها. ولكن هذه الأعذار وإن كان بعضها مقبولا ووجيها فإن السكوت عنها لا يمكنه أن يقود في الأخير إلا إلى مزيد الانزلاقات وإلى مشاكل قد لا يمكن تطويقها بعد فوات الأوان وبعد أن تتطور مظاهر الاحتكار وتنخرم منظومة مسالك التوزيع الرسمية ليصعب في ما بعد إصلاحها.