بدأ الشعب التونسي بكل أطيافه السياسية والمدنية يتطلع إلى سن قانون "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" بعد أن شرع المجلس الوطني التأسيسي منذ أيام في نقاش مشروع هذا القانون، هذا الشعب الذي تذوق لأول مرة خلال تاريخه الطويل حلاوة ممارسة حقه في اختيار من يمثله عبر انتخابات شهد لها كل العالم بالنزاهة والشفافية ،كما شهد الجميع للفريق المشرف على الانتخابات بالهيئة المركزية وبكل الهيئات الفرعية، بالداخل و الخارج، بالحيادية والاستقلالية. كانت استقلالية الهيئة السابقة و من ورائها استقلالية أعضاء الهيئة المركزية و أعضاء الهيئات الفرعية العنوان البارز الذي ضمن قبول جميع الأطراف بالنتائج المعلنة ،على الرغم من ظهور بعض الإشكاليات التطبيقية التي رافقت انتخابات أكتوبر 2011 ، مثل التوزيع غير المتكافئ للناخبين وما تسبب فيه من اكتظاظ داخل المكاتب ،و صعوبة تحديد القوائم على ورقة الاقتراع ،و كذلك تلكؤ بعض القائمات المترشحة في الامتثال إلى ترتيبات الإشهار السياسي ،أو عند مطالبتها بتقديم المستندات والوثائق المحاسبية لمراقبة تمويل الحملات الانتخابية ومسك الدفاتر المحاسبية ،وفق التراتيب المقررة من قبل الهيئة ،بدعوى أن الهيئة المشرفة على الانتخابات لا تملك سلطة إلزامية... مما لا شك فيه أن الهيئة الجديدة ستعمل على تلافي كل هذه النقائص و الإشكالات في المحطات الانتخابية القادمة، لكن السؤال المطروح بإلحاح : كيف يمكن للهيئة أن تحافظ على استقلاليتها التي تميزت بها خلال الانتخابات الفارطة على وقع ما تشهده الساحة السياسية من تجاذبات و صراعات حزبية ، في ظل حكومة أحزاب "الترويكا" المعنية بالانتخابات القادمة، على عكس الحكومة الانتقالية الأولى التي لم تكن طرفا في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي ؟ الاستقلالية: قيمة و أخلاق يمكن تعريف الاستقلالية على أنها التفكير الحر المسؤول الذي يترتب عليه الإنصاف و العدل في الحكم، حتى و إن خالف ذلك الموقف القناعات الشخصية للفرد المستقل ، فالاستقلالية هي قيمة أخلاقية جليلة كالصدق و الأمانة ، يتحلى بها قلة من البشر العقلاء مهما كان دينهم و مذهبهم، يرعون العهد و يؤدون الأمانات إلى أصحابها ، في زمن قل فيه المنصفون ، وتاهت فيه كلمة الحق وسط بيئة كانت نتاج عقود من دكتاتورية غاشمة ، تغلغلت فيها سياسة الموالاة للسلطة ، والانبطاح تحت أقدامها ، طلبا لمصلحة ذاتية ضيقة ، لا تحسب حسابا للمصلحة العليا للبلاد. وتقابل الاستقلالية العبودية إلى فكر معين أو الخضوع إلى أوامر دون إعمال الرأي ومناقشة الموضوع ، مما يجعل من الشخص غير المستقل أسير فكرة ما أو ايدولوجيا تأخذ عليه لبه و كيانه ،فلا يرى الحق إلا من جانب الفكرة التي يؤمن بها ... هذا المفهوم الكوني للاستقلالية يمكن أن نستخلص بكل يسر أن هذا ما يرجوه الناخب و تشترطه الأحزاب السياسية من مواصفات في أعضاء "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" المزمع إحداثها ، لتتخذ قرارات منصفة، ثم لتفرز انتخابات غير منحازة ، لا تخضع إلا إلى معيار الصحة و العدل، تعبر عن إرادة الشعب بكل دقة و وضوح. الاستقلالية هي مسألة دقيقة و على غاية من الأهمية ، إذ لا يجب اشتراط عدم الانتماء إلى حزب سياسي فحسب ، لكن يجب على كل مترشح لهذا المنصب أن يستشعر في نفسه أولا الحيادية و القدرة على الفصل بين القناعات الفكرية و الاديولوجية و المهام التي يضطلع بها داخل الهيئة ، و يجب عليه ثانيا أن يتحلى بالموضوعية في معالجة الشأن الانتخابي الذي تغلب عليه الجوانب القانونية و الترتيبية التي سيحددها قانون الانتخاب الجديد ، و أن لا تكون له مصلحة شخصية مباشرة آو غير مباشرة في فوز هذا الحزب أو ذاك
لا استقلالية للهيئة بدون استقلالية كل الأعضاء، وهو ما سيؤدي حتما إلى صون الحقوق وترسيخ الثقة بين الهيئة و كل الأطراف المتداخلة في العملية الانتخابية ، فهي شجاعة و قوة فكرية ومسؤولية تاريخية ، تفضي إلى عدم الخضوع إلى التأثيرات وتنتج فعلا غير مملى ، دون تحيز إلى جهة ، و دون رغبة في تحقيق نفع مادي أو معنوي .
الاستقلالية: ممارسة واقعية الاستقلالية في بعدها القيمي و الأخلاقي ، الذي حاولت أن أستجلي بعض جوانبه في الفقرة السابقة تظل نظرية ما لم تُختبر على أرض الواقع ، لتتجلى عبر ممارسات ميدانية تستقر في الوعي العميق للفرد المستقل، و تنأى به عن ادعاء ما ليس فيه ، فصاحب الشخصية المستقلة منفتح على كل الآراء المنبثقة من اليمين ،أو من اليسار،أو من الوسط ، و لا سلطان عليه في ممارسة أعماله إلا للقانون ، حتى و إن كان متناقضا مع قناعاته الشخصية من هذا المنطلق لا يجب أن تكون"الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" إدارة تقليدية تخضع إلى تأثيرات الحكومة ،بل يجب أن تكون كيانا مستقلا بذاته يجسد الحياد المالي و الإداري تجاه الحكومة والأحزاب المعارضة ، على حد السواء.
و حتى نضمن هذه الاستقلالية المنشودة"للهيئة العليا المستقلة للانتخابات" ، التي بدونها لا يمكن الحديث عن انتخابات حقيقية تترجم عن إرادة الشعب ، يجب إن يكون الأعضاء كذلك بعيدين عن تأثيرات الإدارة التي نشأت و ترعرعت وسط ولاء مطلق للحكومات المتعاقبة
ويستثنى من الإداريين سلك القضاة باعتبارهم سلطة مستقلة بذاتها ، فلا يمكن احتسابهم من ضمن الإدارة التي تخضع إلى الجهاز التنفيذي.
فمن منا ينكر صمود ثلة خيرة من القضاة بمختلف أصنافهم أمام الإغراءات ، الذين لم ينساقوا وراء منظومة الفساد على الرغم من محاولات الترغيب والترهيب التي مورست ضدهم، وبذلك سلم جزء هام من هذا الجهاز و حافظ على قدر كبير من الاستقلالية ،بدليل العديد من الأحكام الصادرة عن المحكمة الإدارية قبل الثورة ضد الحكومة الفاسدة ،فلا سلطان على القاضي إلا للقانون.
"المحاماة مهنة حرة مستقلة غايتها المساعدة على إقامة العدل" ، بهذه الكلمات البليغة يستهل القانون المنظم لمهنة المحاماة أول فصوله ، الحرية والاستقلالية وإقامة العدل ، لا أظن أحدا من الأحزاب السياسية التي ستتنافس في الانتخابات بحاجة إلى أكثر من هذا. المحاماة بفضل مناضليها و خاصة المستقلين منهم صمدت أمام آلة النظام السابق القمعية ، فكانت ملاذا ومأمن لكل مظلوم أو طالب حق و كانت رجع صدى صوت كل مقموع للتعبير عن رأيه و الدفاع عن حقوقه . أقول هذا الكلام على الرغم من وجود بعض القضاة و المحامين ممن باع القضية و تاجر بالوشاية بزملائه، و استأثر من دونهم بالامتيازات و المصالح الشخصية، فهؤلاء لا يمثلون إلا أنفسهم
يجب حسب رأيي التقليل من الإداريين ضمن تركيبة الهيئة المزمع إحداثها مهما كانت كفاءتهم العلمية ، لأنهم لم يتدربوا على ممارسة الاستقلالية بالقدر الكافي الذي تدرب عليه الجهاز القضائي و المحامون و أصحاب المهن الحرة كالخبراء المحاسبين ،و عدول التنفيذ، وعدول الإشهاد و غيرهم..
لقد كانت تجربة انتخابات المجلس الوطني التأسيسي موفقة لأن"الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" ضمت في تركيبتها المركزية وهيئاتها الفرعية ممثلين عن كل هذه المهن، الذين شهد لهم زملائهم بالكفاءة والاستقلالية ونظافة اليد ، فرشحوهم للاضطلاع بهذا الدور، فأعطوا بدون حساب و تفانوا في خدمة الشأن العام على حساب مصالحهم الشخصية.
اللجوء في تركيبة " الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" إلى القضاة و المحامين و أصحاب المهن الحرة المشابهة لا يجب أن يُفهم على أنه إقصاء لبقية المهن ،أو أنه لا يوجد في الإدارة أو في الجامعة من تتوفر فيه شروط الاستقلالية ، و لكن هذا الاختيار يخضع إلى أسباب موضوعية لعل أهما : - تطغى على الشأن الانتخابي القوانين و القرارات الترتيبية و الإجرائية ، و لا نجد أفضل من أهل الاختصاص لقراءتها قراءة صحيحة و تأويل المبهم منها ، حفاظا على حقوق الجميع. - الدربة الطويلة لأصحاب هذه المهن على ممارسة الاستقلالية و الحيادية، فهم أقدر الناس من هذه الناحية على تجسيمها عل أرض الواقع بمناسبة الانتخابات. - استقلال هذه المهن على الإدارة و عدم تعودهم على العمل وفق منظومة عمودية في شكل هرم ، تكون قاعدته العليا مكونة من الوزير أو الرئيس المدير العام ، ثم تتجه هذه القاعدة نحو الاتساع كلما اقتربنا من قاعدة الهرم الكبرى ،وهي الإدارة الدنيا ،التي لا تعمل إلا وفق أساليب و إجراءات تحد من استقلالية العاملين بها. - التزكية التي يتحصل عليها هؤلاء الأعضاء من الهيئات الوطنية ، تُعد دليلا إضافيا و ضمانة معنوية للتمتع بشرطي الاستقلالية و الكفاءة ،و عدم الانتماء أو حتى التعاطف مع حزب التجمع المنحل.