من بين الأفلام التونسية الوثائقية المشاركة في الأيام السينمائية الأوروبية المنتظمة بتونس هذه الأيام والتي ستعرض غدا السبت بقاعة الكوليزي بالعاصمة نجد فيلم "ثورة غير درج" للمخرج رضا التليلي. وهو شريط بالألوان وقد قام بعملية التركيب محمد علي زرافي والإنتاج ل"أيا كان فيلم للإنتاج". يواكب الفيلم البدايات ومراحل التدرج لحركة أهل الكهف الفنية، والتي تتكون من مجموعة من الشبّان الذين يعبّرون عن احتجاجهم في شكل أعمال فنيّة على الجدران. متخذين من الحواسيب وأدوات الرسم ومجموعة من الألوان وسيلة دعم وسند لهم في رحلتهم النضالية ويعززون عملهم ببعث إذاعة على الانترنيت يطوّرون بها علاقاتهم مع مناضلين... أحداث الفيلم تجري بين أزقة وشوارع المدينة لترصد تحركات وأنشطة"أهل الكهف".. و"أهل الكهف" هم عناصر اجتمعوا ليكونوا حركة فنية شبابية تونسية تعمل على مناهضة العولمة والاستشراق وهي أيضا حركة ولدت مع المسار الثوري. ويمكن القول إن الانشغال الإبداعي والفني بالشؤون الداخلية الصعبة والمعقدة في داخل تونس جعل الأطراف عرضة للقضم والهضم والضياع؛ تماماً مثل الديناصور الذي أكل الأخضر واليابس وتضخم إلى حد قام النمل بأكله من أطرافه.. والأسطورة تقول إن الديناصور كان أصله نملة تضخمت فجأة بعد أن أكلت الأخضر واليابس وصارت من الضخامة بحيث عجزت عن حماية أطرافها؛ فجاء النمل(من نفس النسل) وأكل أطراف الديناصور حتى انقرض عن وجه الأرض. عملية أكل النمل للديناصور شبيه بالثورة التي تبدأ بأكل أبنائها في الحركات الثورية والتاريخية.. ويكون ذلك نتيجة جوع أو إملاق أو جهل بصيرورة التاريخ. ولكن المأساة (بل الملهاة) أن حكاية انقراض الديناصور تماما لأصحاب الرؤوس الحامية ولكنها واقعية... مثل القدرة التونسية على التحوّل والتخفّي التي صارت جزءاً من التركيبة النفسية والبيولوجية التونسية، وينكرها البعض. وبالغرس الثقافي والتحوّل يكون من الصعب إجراء عملية تغيير بعد فترة من الزمن إلا من خلال عملية تسمّى في التاريخ(الهدم من أجل البناء). وربما لا يدرك الكثيرون هذا القانون التاريخي.. ونعرف لماذا، ربما لأنهم يؤمنون بحتمية تاريخية من نوع آخر... من خلال رموز متعددة وأشكال مختلفة وايحاءات واضحة استطاع المخرج في هذا الفيلم جمع شتات "أهل الكهف" الرمز، الموزّع حرّكهم ، الضمير الوطني، الذي ابتدعه الفنان المخرج في هذا الفيلم "ثورة غير درج" من خلال عملية تحريك بصري أبدعته أصابع المخرج الذي أثبت بأنه حريص على حياكة فيلمه بصرياً دون إغفال لأبسط التفاصيل.. أهل الكهف، الاشارة التي انتحلها الكثيرون بطرق وأساليب غير مباشرة وصاروا يروجون لها منذ14جانفي في أغلب أعمالهم الفنية رواج القضية الإنسانية التي حملها، يجمّع في شهادة بصرية فنية توثيقية راقية من إبداع المخرج. ولكن لملمة (أهل الكهف)، ليس بالأمر الهيّن، فقد اقتطفه المخرج من صدور الناس ومن عقولهم ومن واقعهم كفكرة وانجاز على ارض الواقع واستحضره من حياتهم مجسّداً. تحوّلات أهل الكهف، وتجلياتهم في أشكال متعددة ظهرت إلينا وتجسدّت في زمن قصير هو مدة الفيلم، فقد كان حراكه هائلاً كموج البحر الهادر، وعذباً كحركة رموش العيون لدى التونسي الذي يمتلك ضميراً حيّاً.. مخرج الفيلم المولود سنة 1977 بسيدي بوزيد، متحصل على تنويه خاص بالإخراج عن فيلم التخرج"لا شيء" في مهرجان قليبية سنة 2003، وعلى جائزة أفضل إخراج في مهرجات التاغيت الذهبي في الجزائر عن فيلمه القصير"أيا كان سنة 2008 كما أخرج سنة 2009 فيلمين قصيرين هما "ترياق "و"أسفل السطح"، وأنتج وأخرج في سنة2011 فيلمين وثائقيين طويلين أحدهما"ثورة غير درج"والآخر"جهة"، وهو عضو مؤسس في الحركة من أجل السينما في تونس سنة2009 وعضو مؤسس في مهرجان"الرقاب للسينما التجريبية والمحاولة"سنة 2012. فكرة الفيلم كانت قويّة، عندما بذل المخرج عناء ومشقة لملمة جماعة"أهل الكهف"، من حوالينا، وتقديمهم أحياء، متحركون، ومتكلّمون وفاعلون يخاطبونً الناس كافة بمختلف أطيافهم. وقد عمل المخرج على الانشغال بأدوات تحريك فنية لجعل هؤلاء يسيرون ويتكلّمون ويناضلون ويرفعون أيديهم ويصرخون وينذرون ويحذّرون ويستديرون للناس ويصنعون الملاحم بأساليب فنية وحضارية جدا... نفض المخرج النشط الغبار عن هؤلاء. وبالرغم من أن إعادته صياغة هذا الرمز وتحريكه ولملمته فيه تقديس طبيعي لجماعة أهل الكهف إلا أنه أخرجهم من "الإطار التاريخي" ليكسبهم (كاريزما) إضافية.. المعالجة البصرية لأهل الكهف الضمير المحرك، ومتابعة تجليات حياتهم ضمن محاور متعددة تجعلنا ندرك أن المخرج لا يهمل أدق التفاصيل في عمله الفني وهو بذلك يقترب من روح السينما التي تلتقط المشاعر قبل الكلمات وتلتقط الحركات قبل عمليات البوح اللفظي... النص لفيلم"ثورة غير درج" تمت حياكته لغوياً وفكرياً وفنيا وإبداعيا بشكل مكثّف بحيث يسير إلى جانب الصورة ولكنه لا يكررها وإنما يكمّلها أو يعالجها أو يحاكيها من ناحية نقدية. فعلاقة النص بالصورة كانت في هذا الفيلم جدلية بالأساس وهذا ما يحقق من خلاله الإضافة للسينما التونسية والمتعة للمتفرج... لتصل الرسالة في النهاية إلى المتلقي ومفادها أن القيام بثورة صعب ولكن الأصعب هو إنجاح هذه الثورة وتحقيق أهدافها.