من الطبيعي أن تتجه عيون التونسيين في هذه المرحلة الى ما يحدث في الشارع المصري وما يمكن أن يؤول اليه الوضع في الساعات القليلة القادمة تحسبا للازمة التي أفرزها الاعلان الدستوري تماما كما أنه من الطبيعي أن تتجه عيون المصريين الى المشهد الراهن في تونس بكل حساباته ما ظهر منها وما خفي وبكل تناقضاته وصراعاته السياسية المتفاقمة بين السلطة والمعارضة من جهة أولى وبين السلطة وبين أكبر المنظمات الشغيلة من جهة أخرى... فقطار الربيع العربي الذي كان مهده تونس قبل أن ينتقل في محطته الثانية الى ميدان القاهرة ومنها الى طرابلس فصنعاء ودمشق يبدو اليوم معطلا بعد أن أصابه الوهن بين ارث الماضي الاستبدادي المثقل بالفساد وبين حجم التطلعات والمطالب والاحلام الاجتماعية والاقتصادية والانسانية وغيرها بما بات يدفع أكثر المتفائلين بالربيع العربي الى توقع الاسوأ . طبعا تعطل القطار في أحدى أو بضع محطاته اليوم وإن كان يؤشر الى حجم التحديات الانية والمستقبلية فانه قد لا يعني بالضرورة أنها نهاية المطاف وأن الوضع بلغ درجة من التأزم الميؤوس منه أو بما يمكن أن يبرر حنين البعض الى الماضي البغيض. الايام القليلة الماضية لم تكن هينة على التونسيين ولا المصريين وهم يتابعون مظاهر الفتنة تزحف اليهم محملة بأخطر ما يمكن للمجتمعات مواجهته وهو خطر التقسيم والتفكيك الذي سيكون مثل السوس اذا ما امتد الى الجسم نخره حتى لم يبق منه عضوان متماسكان... وهو خطر لا مجال اليوم لتجاهله أو التقليل من شأنه في خضم تفاقم الازمات الحاصلة بين السلطة والمعارضة والتي لم تعد تخفى على مراقب للتحولات الحاصلة في اثنين من دول الربيع العربي... بل ولاشك أن محاولات تقسيم المجتمعات بين علمانيين واسلاميين وبين كفار ومسلمين وبين أزلام وثوريين باتت اليوم بمثابة الخنجر الموجه الى صدر الثورة في غياب دولة القانون والمؤسسات وانتشار مظاهر الفوضى والانتهازية... قد يبدو المشهد في ظاهره مختلفا بين البلدين عندما يتعلق الامر بتفاصيل الاحداث وجزئياتها وكذلك بالوجوه السياسية المتصارعة أو بالسيناريوهات المطروحة، ولكن الواقع أن جوهر الازمة يبقى واحدا. فالأنظمة الاسلامية الصاعدة في أعقاب الثورات الشعبية الحاصلة لا تزال تبحث لها عن بوصلة لتحديد توجهاتها وخياراتها في مرحلة تجمع بين هشاشة الوضع الاقتصادي والاجتماعي وغياب العدالة وتراجع الآمال والفرص وتفوق منطق الرغبة في الانتقام والاقصاء وهيمنة الخطاب الديني على أغلب الفضائيات والمنابر السياسية والدينية وحتى الاعلامية. مشهد نواب الترويكا في المجلس التأسيسي وهم يصفقون انتشاء بالمصادقة على عدد من القوانين في غياب المعارضة لم يختلف كثيرا عن المشهد في اللجنة التأسيسية المصرية التي عجلت بإعلان مشروع الدستور وطرحه للاستفتاء في غياب المنسحبين في إشارة لا تخلو من دهاء بأن المعارضة هي من يعطل التقدم... نظرية المؤامرة والمتواطئين والعملاء الذين يمولهم الخارج لم تعد حكرا على مشهد دون الآخر، وفي كل الحالات يبقى المواطن البسيط الخاسر الأكبر تائها بين الحرب الكلامية والاتهامات المتبادلة بين الخصوم الذين ألهتهم الكراسي عن المصالح العليا للأوطان. وقد لا يكون الغضب الشعبي والمظاهرات اليومية والاضرابات نقطة الالتقاء الوحيدة بين تونس ومصر، بل إن في التصريحات الشعبوية والغير محسوبة العواقب للمسؤولين في أحيان كثيرة دورها في تأجيج المشهد .. وكما لم يساعد خطاب أول أمس مرسي على تهدئة الأجواء ولا على تخفيف الاحتقان الحاصل، بل بالعكس من ذلك فقد كان لدعوته المبهمة للحوار مع الاصرار على موعد الاستفتاء والتمسك بصلاحياته المطلقة ورفضه التراجع عن الاعلان الدستوري أن زادت المشهد سوءا، فإن تصريحات زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي في نفس اليوم بشأن رابطات حماية الثورة قد ضاعفت الازمة بين الحكومة واتحاد الشغل وكان لها أثر الزيت على النار. وبدل أن يكون موقفه مناصرا للوحدة بين التونسيين فقد اختار مرة أخرى أن يعمق الانقسام بينهم. وقد لا يكون من المبالغة في شيء الاقرار بأن سياسة الهروب الى الامام والبحث عن شماعة لتحميلها المسؤولية نتيجة تكاد تكون مشتركة بين المشهدين. خطأ الاسلاميين الذين اعتلوا السلطة حديثا في مصر كما في تونس أنهم يريدون حكم شعوب عانقت الحرية حديثا ودفعت لأجلها ثمنا باهضا، بعقلية الحكام السابقين، فلم يدركوا عمق التغيير الحاصل في عقلية الشعوب ولا أن تلك الشعوب لن ترضى بدور العبد الضعيف الخاضع لكل القرارات المنزلة كما في عهود الاستبداد القريب... فرق بسيط ولكنه يظل قائما بين المشهدين أن في دائرة الرئيس مرسي من المستشارين من رفضوا إحكام قبضته وتفرّده بالسلطة فاختاروا الاستقالة وسجلوا مواقفهم بوضوح، ولكن في المقابل فإن سحر الكراسي على أصحاب القرار عندنا لايزال تأثيره قائما...