يخطئ أيّ حزب أو تحالف أو منظمة حينما يعتقد أنه يملك من القوة والنفوذ والتأثير والشجاعة والجرأة أيضا، ما يخوّل له التمكن من كافة مفاتيح دواليب الحياة العامة وتوجيهها. يخطئ أيضا من يعتدّ بنفسه إلى حدّ الغرور، أو يحمّلها ما لا طاقة لها به، بنرجسية تكاد تلغي كل الحدود والفواصل مع السراب، عندما يستنزف تاريخه الكفاحي، أو يقتصر على ماضيه النضالي ليستأثر بشرعية كبرى لا ينازعه فيها أحد. إذن نحن في هذا الظرف أمام نتاج جملة من الأخطاء المتراكمة بفعل الحملات الإعلامية المتبادلة بين الاتحاد العام التونسي للشغل وحركة النهضة، وبفعل شحن الأجواء سواء بالمسيرات في الشوارع أو بالخطب النارية في الاجتماعات والمساجد. ولا بدّ من الإشارة إلى أننا وصلنا إلى هذا الوضع لأمرين اثنين: الأول: هو أن الساحة السياسية التونسية هي انعكاس لخريطة حزبية، بدأت في التشكل منذ الأسابيع الأولى بعد الثورة، واتضحت معالمها بعد الانتخابات حيث كانت النهضة المحور الذي خطف الأضواء، سواء عبرالتماهي معها أو بتحديد المسافات تجاهها، وهو ما أدّى إلى تجاذبات وصراعات شديدة زادها دخول العنصر السلفي ليحول دون استقرار المشهد العام. الثاني: هو أن حركة النهضة اتخذت في عملها ونشاطها طابعا هجوميا على خصومها السياسيين، أو لنَقُل منافسيها المحتملين، بدأ بالتهجم المبطن أو المباشر من قبل القيادات أو المواقع الاجتماعية القريبة من الحركة على العلمانيين، ثمّ على التجمعيين ونداء تونس، وأخيرا على اتحاد الشغل عبر التهجم والشيطنة. ولعل اللعب بورقة السلفية أضفى الكثير من الغموض على الساحة، حيث لم نشعر بفك ارتباط بين النهضة وجانب من السلفية إلا بعد أحداث السفارة الأمريكية، ووفاة اثنين من السلفيين في إضراب جوع، وهو ما ساهم إلى حدّ كبير في إعادة التوتر إلى الأجواء، لكن لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار أن الأحزاب مقبلة على انتخابات رئاسية وتشريعية -إن عاجلا أو آجلا-.. إلى جانب الورقة السلفية التي تخوّل ضمان خزان للأصوات، ارتأت النهضة الحدّ من قوة اتحاد الشغل، لأنه القوة الوحيدة المتماسكة، فيما عكست فترات التوتر بين الجانبين في الأشهر الماضية رغبة من النهضة في محاولة احتواء الاتحاد، وإرادة من هذا الأخير للحفاظ على استقلاليته ومكانته التاريخية. ولا شك أننا نجد بعض بوادر الصراع في القمة وعلى القمة في جبهة تصحيح المسار النقابي، التي تضمّ منتمين إلى النهضة كانوا قد ترشحوا في مؤتمرات نقابية أساسية ولم يفوزوا، وهي الجبهة التي تقول إنها تريد تصحيح مسار اتحاد الشغل، والفكرة واضحة أي احتواءه أو تحييده عن تفاصيل الحياة السياسية، وإجباره على الاقتصار على الجانب النقابي. وإلى جانب تعلة تصحيح المسار النقابي، نزلت رابطات الدفاع عن الثورة بكل ثقلها للتهجم على الاتحاد خاصة وهو ما تجسّد في ساحة محمد علي بالعاصمة، عند إحياء ذكرى استشهاد الزعيم النقابي فرحات حشاد، وما تخلل ذلك من اعتداءات على مقرّ الاتحاد ومن أعمال عنف.. وعندما قرّر الاتحاد الإضراب العام تعددت الانتقادات من هنا وهناك، لأنه ثاني إضراب في تاريخ البلاد، وما زالت الذاكرة تحتفظ بأهوال إضراب 26 جانفي 1978, لكن الوضع الحالي للبلاد لا يحتمل لا مزيدا من التصعيد ولا حتى إضرابا عاما، حيث ما كان أحد يتمنى ذلك. لا بدّ من التدارك خلال الساعات المقبلة, ولا بدّ أن تنشط قنوات الحوار والوساطة، ولا بدّ من الاعتذار لمن استهدفه العنف أوالشتائم، غير أنه من المنطقي جدا لا يمكن وضع حركة النهضة على نفس مستوى اتحاد الشغل، فرغم وجود تعددية نقابية ظل الاتحاد أكبر مركزية نقابية في تاريخ البلاد، وقد سجلت تجربة محاولة الإطاحة باتحاد الشغل في الثمانينات، بتأسيس الاتحاد الوطني التونسي للشغل من 1984 إلى 1987، إلا أنه سرعان ما استعاد اتحاد الشغل الشرعي مكانته. هذا المثال كفيل بالتدليل على أنه يصعب إن لم نقل يستحيل على أيّة جهة محاولة ضرب الاتحاد أو تدجينه، وكل من يدرك هذه الحقيقة مطالب بالتحلي بالحكمة والواقعية، ليس لأن اتحاد الشغل فوق النقد، بل لأن الاستفزاز وتوظيف الأزمات المفتعلة لا يخدم مصلحة البلاد بأيّة صورة كانت.. لا أحد بمقدوره الهيمنة كليا على البلاد مهما كانت الحجج ومهما أوغلت في التاريخ أو في التقييم النضالي, فقد أدّى الاتحاد دوره في معركة الاستقلال وبناء الدولة الحديثة, فيما عانى قياديو التيار الإسلامي ثم حركة النهضة وأنصارهما خلال سنوات الجمر.. إذن كل هذا يبقى تاريخا يتعيّن أن نستلهم منه العبر، لا أن نستعمله في مختلف تفاصيل حياتنا اليومية والسياسية. هل رأيتم فرنسيا واحدا يتحدّث عن مواجهة الاحتلال النازي ومعاناة الفرنسيين صباحا ومساء، ويوظف ذلك خارج سياق المناسبات الرسمية؟.. هل رأيتم أمريكيا يستغل سنوات النضال ضدّ الاستعمار الأنقليزي في الحاضر الأمريكي ويسعى للهيمنة على الحياة العامة استنادا إلى دور تاريخي ما؟.. لا بدّ من التفكير مليّا قبل فوات الأوان فتونس لا يمكن اختزالها أو اختزال تاريخها في تاريخ منظمة, ولا يمكن أن تلغي نضالات جانب من التونسيين بقية النضالات على مرّ العقود. تاريخنا صنعه أفراد كثيرون باسم الانتماء إلى هذه الرقعة الجغرافية والمواطنة، وليس لحساب منظمة أو حزب.. وحاضرنا ومستقبلنا يجب أن يصنعهما الأفراد باسم تونس بلا استثناء أو إقصاء، ومن أجلها.