من السابق لأوانه الحديث عن حصيلة للثورة في تونس، لأن الثورات عادة لا تقيّم ولا تستنتج منها العبر ولا تستخلص منها الدروس إلا بعد عقود, وبالتالي من الأفضل الابتعاد عن أيّة قراءة تاريخية متسرّعة، ليكتفي المرء بالمستجدّ والمستحدث علّه يجد فيهما ضالته ويحاول تحديد حاضره، واستشراف مستقبله على ضوئهما. ولعل نظرة سريعة إلى الثورات في تاريخ البشرية كفيلة بالتدليل على أن في الثورات تكون النتائج الإيجابية مؤجلة، وتبقى يومياتها تجترّ المستجدّ والمستحدث.. ففي التاريخ المعاصر نجد الثورات البلشفية والكوبية والصينية والمصرية -23 جويلية 1952- قد حاولت قلب الأوضاع، وسعت إلى العدالة الاجتماعية، كل بطريقتها الخاصة، إلا أن القاسم المشترك هو أنها على مرّ الوقت إما حادت عن طريقها، أو حرفت أهدافها تأسيسا لتركيبات اجتماعية بعيدة كل البعد عن أهداف تلك الثورات. لذلك فما أحوجنا اليوم في تونس إلى أن تنطلق نخبنا من حيث انتهت كل الثورات، وأن تقيّم العامين برصد السلبيات, إذ من السهل جدّا الحديث عن الأهداف، لكن الصعوبة كامنة في جملة من الظواهر، من بينها العنف وتراجع هيبة الدولة، والشرخ في المجتمع بفعل النشاط غير المقنن للسلفيين، وتغلب نزعة الانتماء الحزبي على مبدإ الانتماء لوطن واحد، وهو ما حوّل الاختلاف الفكري والسياسي إلى عداء واضح. فالثورة التي فجّرها أهالي المناطق المحرومة في سيدي بوزيد والقصرين وقفصة وسليانة من أجل الكرامة في مختلف تجلياتها، أصبحت مطية ركبها الكثيرون، فيما بقي أهالي تلك الجهات خارج سياق الثورة, فهؤلاء الراكبون الذين أمضوا من الوقت الكثير لكي يبرهنوا على نضاليتهم يمينا أو يسارا.. وسطا أو تطرفا.. سرّا أو علنا.. في الداخل أو ما وراء البحار، شيّدوا بهذا الوضع المستحدث جدار الصمت تجاه المستضعفين المحرومين في أرض تونس. فلا يكفي أن تمضي الأيام والأشهر والعامان، وتلك النخبة الحاكمة أو خارج الحكم تسبح صباح مساء في الأهداف والمشاريع والنوايا الطيبة تجاه هؤلاء المستضعفين، الذين تحركوا وثاروا من أجل مطالبهم، لكن جدار الصمت كان أقوى من أن تخترقه معاناتهم ونداءاتهم واستغاثاتهم. ولا يكفي أن تجعل النخبة من هموم المواطنين طبقا يوميا شهيا للنقاش والجدل والخلاف والاختلاف، بينما تتقاعس الإرادة وينعدم الفعل وتحبط كل العزائم الصادقة، لتبرز النوايا وما أكثرها وكلها تصبّ في خانة المصالح الضيقة السياسية والحزبية. ومن الأفضل أن لا يتمّ تقييم الثورة، بل تقييم الذين ركبوها بعد وصولها إلى محطتها الأخيرة محطة النصر، لأن المشهد العام في حياتها السياسية حياتنا اليومية، هو سجل لكل ما برز من أداء حكومي وحزبي وجمعياتي وإعلامي وسلوكيات، وانعدام خارطة طريق واضحة، وتجييش وتصريحات وحروب كلامية، وتهديدات واغتيال سياسي، فيما يتساءل المواطن عمّا إذا كان ذلك سيوصلنا إلى برّ الأمان. ولو تمعّنا في تفاصيل نخبنا حكومة ومعارضة ونوابا في التأسيسي، لوجدنا أننا أمام مشهد سمته الكرّ والفرّ.. الهجوم والدفاع.. ثم الهجوم المضادّ في حلقة سئمها التونسيون، فبين نهضة لا همّ لها إلا البقاء في الحكم والهيمنة على مفاصل الإدارة، وبين نداء تونس الذي يريد إعادة خلط الأوراق، وربّما إعادة التجمع في طبعة جديدة ومنقحة، يتوه التونسي وخصوصا أولئك الذين يوجدون وراء حائط الصمت. إذن نحن لم نعد أمام مشهد ثوري، بل في حلبة تتصارع فيها المصالح، ويحتدم فيها النزاع بين قوى ظاهرة وأخرى خفية.. بين المحتمين بالدين وعبدة الإيديولوجيات.. بين مسلمين وكفار.. بين أنصار الحرية والديكتاتورية.. ابحثوا في هذا المشهد عن أبطال 17 ديسمبر، فإن لم تعثروا عليهم فلأنهم وراء حائط التهميش والإهمال والنسيان.. لا يجب أن يتغافل أحد عن أن هؤلاء لم يركبوا الثورة، بل أوصلوها إلى محطة النصر بأرواحهم ودمائهم. ..حتى لا تظلموا الثورة اكتفوا بالحديث عن الراكبين عليها..