ايداع 9 من عناصرها السجن.. تفكيك شبكة معقدة وخطيرة مختصة في تنظيم عمليات "الحرقة"    الرابطة الثانية (ج 7 ايابا)    قبل نهائي رابطة الأبطال..«كولر» يُحذّر من الترجي والأهلي يحشد الجمهور    أسير الفلسطيني يفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية    حادث مرور مروع ينهي حياة شاب وفتاة..    حالة الطقس لهذه الليلة..    أولا وأخيرا: لا تقرأ لا تكتب    افتتاح الدورة السابعة للأيام الرومانية بالجم تيسدروس    إيران تحظر بث مسلسل 'الحشاشين' المصري.. السبب    إنتخابات جامعة كرة القدم: إعادة النظر في قائمتي التلمساني وتقيّة    بسبب القمصان.. اتحاد الجزائر يرفض مواجهة نهضة بركان    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    بين قصر هلال وبنّان: براكاج ورشق سيارات بالحجارة والحرس يُحدّد هوية المنحرفين    نابل: إقبال هام على خدمات قافلة صحية متعددة الاختصاصات بمركز الصحة الأساسية بالشريفات[فيديو]    الكشف عن مقترح إسرائيلي جديد لصفقة مع "حماس"    بطولة المانيا : ليفركوزن يتعادل مع شتوتغارت ويحافظ على سجله خاليا من الهزائم    تونس تترأس الجمعية الأفريقية للأمراض الجلدية والتناسلية    المعهد التونسي للقدرة التنافسية: تخصيص الدين لتمويل النمو هو وحده القادر على ضمان استدامة الدين العمومي    2024 اريانة: الدورة الرابعة لمهرجان المناهل التراثية بالمنيهلة من 1 إلى 4 ماي    مشروع المسلخ البلدي العصري بسليانة معطّل ...التفاصيل    عميد المحامين يدعو وزارة العدل إلى تفعيل إجراءات التقاضي الإلكتروني    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    بودربالة يجدد التأكيد على موقف تونس الثابث من القضية الفلسطينية    الكاف: قاعة الكوفيد ملقاة على الطريق    استغلال منظومة المواعيد عن بعد بين مستشفى قبلي ومستشفى الهادي شاكر بصفاقس    الدورة الثانية من "معرض بنزرت للفلاحة" تستقطب اكثر من 5 الاف زائر    تسجيل طلب كبير على الوجهة التونسية من السائح الأوروبي    بطولة مدريد للتنس : الكشف عن موعد مباراة أنس جابر و أوستابينكو    جمعية "ياسين" تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    جدل حول شراء أضحية العيد..منظمة إرشاد المستهلك توضح    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    الأهلي يتقدم بطلب إلى السلطات المصرية بخصوص مباراة الترجي    كلاسيكو النجم والإفريقي: التشكيلتان المحتملتان    عاجل/ الرصد الجوي يحذر في نشرة خاصة..    اليوم.. انقطاع الكهرباء بهذه المناطق من البلاد    فضيحة/ تحقيق يهز صناعة المياه.. قوارير شركة شهيرة ملوثة "بالبراز"..!!    وزير السياحة: 80 رحلة بحرية نحو الوجهة التونسية ووفود 220 ألف سائح..    عاجل/ مذكرات توقيف دولية تطال نتنياهو وقيادات إسرائيلية..نقاش وقلق كبير..    ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    بن عروس: انتفاع قرابة 200 شخص بالمحمدية بخدمات قافلة طبيّة متعددة الاختصاصات    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    الكاف: إصابة شخصيْن جرّاء انقلاب سيارة    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حدث أبو يسر قال...

ما الذي يحدث حين يرتدي المفكر عباءة السياسي والحقوقي ليناقش قضايا الواقع المعاش أمام غياب أو فتور مؤسسات المراقبة والمساءلة والمراجعة.
إن المنطق قد يقع في الإثم وإن الإيمان قد يوضع في غير محله استنادا إلى معايير المصالح والمؤثرات لكن الهاجس الذي يؤرق الأطراف المتداخلة لا يظل يتمثل في محاولات الإستقواء بالأجنبي لفرض أنموذج إصلاح مستورد في علب تحمل بوادر اختراق لمنظومة مخزون القيم والثوابت والمبادئ العربية الإسلامية في تونس.
إن الشعور بعزة الانتماء للوطن ينشأ من تفاعلات الدين والأخلاق والفكر في محيط يستأنس العيش فيه باحترام ومسؤولية بين الأفراد في مزيج يقبل الآخر والرأي الآخر دون تفكيك للبنية الفكرية للمناخ الثقافي العام ومرجعياته الأصلية.
إن الاجتهاد السلبي الذي يستند إلى التحيل على القانون والدستور بذرائع إستشرافية زائفة يخدم مصالح فئوية أثبتت محدودية إمكانياتها وقصور رؤيتها حيث طغت سلوكيات النفوذ المتمرد والتعسف والاستعلاء على معالجة الإشكاليات المطروحة حتى تولد الإفلاس السياسي والإفلاس الأخلاقي في ممارسات المعارضة التي أصبحت تعيش أزمة في ترميم ذاتها التي تصدعت من خلال الصراعات الخفية بين أطراف ما انفكت تسعى إلى الزعاماتية بحرفية التلون والمغالطة والتناقضات أمام تداخل ضغوطات الأمن والقضاء والإدارة والحزب الحاكم.
إن عقلية الصدام والمواجهة التي يعمل على إنشائها أزلام الغرب الاستعماري في تونس تواجه اختبارا أجوفا جعل المعارضة تراوح مكانها وتجتر الخيبات في شكل يحط من قيمة النخب السياسية التي فرضت عقمها على تطلعات الشعب بالجري وراء الأوهام والشعارات الزائفة لتسويق العناد والمكابرة التي اتخذت من مبدأ "خالف تعرف" سلوكا يعتريه الجبن والغبن والانتهازية حتى تلاشت مصداقية المعارضة ونخبها وسهلت مهمة السلطة في التصدي لها بمبدأ سياسة "فرق تسد" الذي أوقع النشاز في دوامة الإفلاس بين الأسلوب والتوجهات.
إن تشخيص الداء في الساحة السياسية والحقوقية والنقابية في تونس يتمثل في رفع التشكيك في مصداقية نشاطات الأحزاب والمؤسسات والمنظمات المعترف بها للحد من التراجعات في المجال الحقوقي وتعزيز المكتسبات الميدانية حتى لا يثير الخطاب الرسمي التوجس في المجتمع المدني.
إن استغلال الحكومة لأجهزة الأمن والقضاء وتوغل نشاطات الحزب الحاكم في هياكل الدولة لا يخدم الشفافية والمصداقية والإرادة السياسية في إرساء التعددية الحزبية وحرية الإعلام واستقلال القضاء بقدر ما يضع المصالح الفئوية فوق تطلعات الشعب في ظل تداعيات أزمة اقتصادية عالمية تلقي بتأثيراتها الجانبية أمام الضرورات الأساسية للشعب التونسي.
إن الخيارات العامة للبرامج الإنمائية للدولة تضع نفسها في حاجة ماسة لوحدة الصف وتكاثف الجهود لرفع التحديات في مختلف المجالات وهو أمر ينفي على القيادة الحالية للبلاد التنكر وإلغاء قسط وافر من الطاقات الوطنية المهدورة لأسباب سياسية جعلتها عب ء ا على المجموعة الوطنية منذ عقود.
إن اجترار الأسباب والمسببات التي حولت الأزمة من إطارها الحاد إلى إطار مزمن يزيد في الشرخ والتباعد في إيجاد مسالك الحلول التي تترنح بين التصلب والمرونة.
وإن تأجيل الحسم في ردء الصدع إلى أجل لاحق تضيع فيه قيمة المحطات السياسية يجعل من محدودية الاجتهاد في كيانات الدولة محل ريبة وتوجس تمس من صدق النوايا والعزم بل يجعل المكابرة والعناد حجرة عثرة أمام تظافر الجهود نحو تنقية الأجواء السياسية والحقوقية الملوثة بالمزايدات والمضاربات والبزنس السياسي والحقوقي الذي تحول إلى مصدر تمعش لجميع الأطراف المتداخلة بين المعارضة والنظام القائم.
إن إهدار الوقت والقوى في متاهات تستنزف الجهد والمال تستغله بارونات المحاصصة اليسارية من المجتمع المدني التي فقدت مصداقيتها بفراغ جرابها بعد أن فاتها الركب وتخلت عنها مصادر الابتزاز والانتهازية التي جعلتها تتاجر بمأساة غيرها للتعريف زيفا بنشاطاتها الحقوقية في منابر التبكي خارج تونس وهو أمر جعلها نواة اهتمام من طرف المترصدين لبلادنا والمتأسفين عن استقلالها وخروجها من بيت الطاعة الاستعمارية.
لقد وجب أخذ العبر من حركة المد والزجر التي تجعل الموازنات السياسية تراوح مكانها لتدعيم تيار الإحباط والتمرد الذي تغذيه صراعات عقائدية تستلهم من الفكر المتحجر عناصر الدمار والتحدي حتى تملأ الفراغ السياسي والايديولوجي الذي أحدثه عقم المعارضة وجنوحها إلى الإمعان في اجترار نصف الكأس الفارغ بكساد فكري جعلها تقع في فخ السلطة تتابع الحدث دون صناعته في ديناميكية سلبية تدعم العزوف عن التعاطي مع الظواهر الصحية للمجتمع حتى أصبح الشرخ متوازيا بين السلطة وقواعدها وبين المعارضة والشعب أمام مظاهر الخيبات والتأسف على أيام زمان.
إن اللعب على الوتر الحقوقي في تونس تحت راية النضال الحضاري والمتحضر لا تؤثر فيه مسالك الارتزاق من قوى خارجية تعمل على تطويع أجهزة السلطة بالضغط عليها نحو اقتلاع مساندة رسمية في قضايا ومواقف دولية تخدم مصالح الغرب الاستعماري على حساب الثوابت الوطنية.
ليست لدينا دارفور في تونس وليست لدينا عداءات قبلية أو طائفية تجعلنا محط أطماع وأنظار الغرب الاستعماري.
ولكن موقعنا الجيوسياسي يحتم علينا المحافظة على السلم والهدوء الإقليمي في المغرب العربي الكبير نظرا لتواجد بلادنا بين قطبين من مصادر الطاقة العالمية في الكون (ليبيا والجزائر).
فلا يمكن للغرب الاستعماري تقويض الاستقرار في المغرب العربي الكبير والهيمنة على موارده الطبيعية إلا من خلال اختراق المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تونس ولا يمكن له ذلك إلا عبر النفوس المريضة.
إن الأمن والهدوء الموجود في بلادنا (ولو كان نسبيا) ينعم بظلاله أجوارنا مما يحتم تفعيل ترتيبات إنعاش التنمية في المناطق الحدودية والداخلية حتى تقع إزالة الفروقات الإنمائية بين الجهات بتشريعات مرنة تقضي على مظاهر البطالة والفقر لاستيعاب جهد الفكر والسواعد المهدورة.
إن الصراع بين شمال وجنوب الكرة الأرضية أوجد شرخا للتدخل في أنظمة الدول النامية عبر المسائل الحقوقية لتصدير الديمقراطية المعلبة قصد فرض الهيمنة الاستعمارية عبر أدوات وصاية صقلها الغرب لتنفيذ أوامره عن بعد مقابل التمعش السياسي والحقوقي الذي فتح باب التجاوزات والانتهاكات ضد الأصوات المنادية بإزالة التشريعات والممارسات التي تكبح تطلعات الشعب وطموحاته نحو الغد الأفضل.
إن الانشغال الدائم على الخلافات المأزومة يزيغ عن الانشغال حول مفهوم الاستراتيجيات الموحدة للنهوض بتونس في مختلف المجالات وإن التجاهل والتعامي الإرادي على القضايا الجوهرية لا يتيح أساسا الشروط الحقيقية المتلائمة لتحقيق الخطاب المستقبلي في البلاد.
إن رؤية الذات من خلال عيون الآخر لا يقدم وصفات حلول جاهزة لمشكلات الحاضر لكنه يضعنا في مواجهتها لتحفيز الذات على تجاوز المأزق التاريخي طبقا لقانون التحدي والاستجابة لمتطلبات الوضع والعصر.
فما أشد حاجة الإنسان المعاصر الذي يعيش في عالم مليء بالضوضاء إلى الصمت والسكون والسكوت والتكتم لعله ينصت إلى صوته الداخلي وتهدأ روحه قليلا وينصرف إلى العمل البناء في انتظار استجلاء الأمر ووضوح الرؤية.
لقد شاع استخدام كلمة الصمت في الفكر المعاصر للتعبير عن المسكوت عنه أو ما قد يشير إليه بطرف خفي من خلال بلاغة جديدة مقابلة للبلاغة التقليدية التي تمثل إهداء المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ.
إن دلالات الصمت مرتبطة بالسياقات التي توجد فيها لتكون قدرة التخيل مدعومة بالفهم والإدراك ولا يمكن في هذه الحالة أن يغيب على أطراف الاستئناس بالنفس والانزواء أن تكون في مستوى التطلعات والآمال والثقة.
قد يكون الصمت هروبا من الواقع.
وقد يكون تخاذلا شخصيا.
وقد يكون مراوغة في شكل انحناء ينتظر مرور العاصفة.
وقد يكون وقفة تأمل لإعادة التقييم والنظر ومراجعة النفس.
وقد يكون منعرجا ذاتيا لفتح صفحة جديدة.
وقد يكون تعبيرا عن أسف وخيبة أمل.
ولكنه في الحقيقة شكلا من أشكال التعبير الذاتي عن حيرة أو طمأنينة وأمان أمام تفكك النظريات والاتجاهات الفكرية والسياسية والمعتقدات الأساسية في رحاب علاقة المد والزجر بين علاقة الإصلاح الديني وقضايا الحداثة ومتطلبات منظومة حقوق الإنسان وهموم السياسة.
فحين يصمت الإنسان يصغي إلى الكون ويشتد حضور الكائنات في وجدانه ويقترب في تجربة الصمت من المقدس وتبدأ نسك الدين.
فالصمت يمثل ذروة روحية تعبر عن قمة التواصل مع الغير بعيدا عن الغوغائية التي تلغي الآخر وتغتصب الأمانة التاريخية للمسيرة النضالية ومحطاتها الراسخة في الأذهان.
وحين يكون الصمت رسالة عميقة لمشاعر لا يمكن التعبير عنها بالكلمات لاستيعاب هموم الشخص في حالة من السلام الداخلي يحتاج المرء إلى قدر كبير من التأمل والتدريب والصمت والسكون والإنصات للعالم.
إن إدراك الإنسان للأنواع المختلفة للصمت والسكون يجعله يشعر بالخشوع والرهبة إزاء عظمة الخالق في الإبداع والتصنيف وتوظيف توازنات الكون في مشيئته.
إذ يختلف صمت الليل مع صمت الصحراء وصمت الغابة مع صمت البحر وطقوس الصمت في المجتمعات مع مآثر الصمت على أساليب الحضارة المعاصرة.
والصمت في الحياة اليومية يكون الملاذ الأخير في كثير من المواقف التي يمر بها المرء لأن هناك أمور لا يمكن للإنسان أن يتكلم عنها لأنها تؤلمه وحين يبوح بها تنتج له ألما أشد من الصمت.
وحين يعيش الإنسان تجربة تتضاءل معها لغة الكلام يصبح الصمت هو الملاذ الإنساني لنقل الكثير من المشاعر وما لا يمكن قوله.
إذ يساعد الصمت إلى الوصول إلى حالة من السمو الروحي فيتحكم الإنسان في حواسه وغرائزه دون أن يكبتها ليصل إلى أقصى درجات الإنصات والانتباه والحساسية لأقل تغيير في معايير التناغم ليصبح التنفس امتدادا لإيقاع الكون المتواصل لحركة الروح ويختفي الخوف والقلق والارتباك من المجهول بالشعور بالسكون اللانهائي.
والصمت تجربة إنسانية تنصت للوجود وكل ما يحيط بالإنسان ولا تعني عدم الكلام.
وقد يكون الصمت تعبيرا سلبيا عن الوجود ويعبر عن الجهل وعدم إمكانية التواصل مع الآخر.
وقد يكون تعبيرا إيجابيا يعبر عن العلم بخفايا الأمور ويصبح موقفا مما يحدث حين يجبر الإنسان عن الصمت عندما يتساوى الموت مع الكلام ويصبح حينذاك دلالة سياسية.
ويحتل الصمت مكانة مهمة في مختلف الديانات إذ نجد في التصوف الإسلامي أن الصمت رياضة روحية تتجاور مع الجوع والعزلة والخلوة والسهر والذكر والزهد وحفظ اللسان فيتحول الصمت إلى بوابة الدخول للزهد والورع وما يعنيه الصمت قلة الكلام فيما لا يعنيه وإقباله على ما يعنيه للتنبه من ساعات الغفلة لأن الصمت غاية الإيجاز في موضعه وربما كان أنفع الإبلاغ بالمنطق في موضعه إذ أن الصمت رغبة ما ترى من كثرة فضائح المتكلمين في غير الغرض والمناسبات.
وقد يكون الصمت تعبيرا عن الصبر والمصابرة ورغبة في تحدي المجهول في غياب وضوح الرؤية.
في الصمت روح من المسؤولية ومناشدة ذاتية لتجاوز الأزمة التي تكبل المساهمة في الانفراج.
لذلك فإن غياب اللغة والكلام يفسح المجال للإشارة والملاحظة والحياد.
وقد يفتح الصمت باب التأويلات والافتراءات والمشاحنة بالإدعاءات الباطلة التي تفسد مناخ العزلة والانزواء الذاتي وذلك حتى ترجع الغوغاء المجانية التي تلوث السلوك النضالي المتميز في الشكل والمضمون بعد مرحلة الإحباط وخيبة الأمل والتأسف على ما فات وضاع من العمر في سبيل كل من يستكثر التنفس على غيره.
إن الصمت يفتح باب المهادنة والمراجعة ونقد الذات بكل مسؤولية.
وإن كان الصمت يسمح بالفرجة والانتظار فإنه يكشف مدى وزن وصدق منتهج هذا السلوك أمام المزايدات والبزنس السياسي والحقوقي والعنصرية النخبوية في ميدان المعارضة السياسية التي تعمل على تفكيك الصفوف حسب املاءات وأجندة أجنبية أوكلت الوصاية لمهمتها لأطراف معزولة في المجتمع التونسي تعاني من عقد نفسية ذاتية وفشل مهني وصعوبات مادية وتفكك أسري جعل من هذه العوامل وغيرها معطيات تطويع تراهن على المغالطة والتسويف للمساومة مع السلطة أوالمتاجرة مع الأوكار الأجنبية المشبوهة من أجل الابتزاز وتأصيل التبعية وذلك لتفكيك العزلة والإقصاء الذي اتخذ أصحابه من مأساة ضحايا التصدع السياسي والحقوقي في تونس أداة مراهنة ومزايدة لأطراف ما فتئت تلهث وراء افتعال بكارة ناصعة في مسيرتها الذاتية الملوثة بشتى أنواع النذالة السياسية والحقوقية لتزييف التاريخ وإضفاء شرعية على "الترهدين" والنفاق "والتمسكين" بوسائل مكشوفة عمقت عزلة النخبة عن المجتمع وفاقمت العزوف عن التعاطي مع الأحداث ومستجداتها.
ولئن تحولت بعض مؤسسات المجتمع المدني في فجر التغيير إلى رياض أطفال ومحلات تربص وترصد وترويض تستخرج الوزراء والمسؤولين فإن باب تسلق الجدار النضالي جعل من ركوب الأحداث منهجا في الاستيلاء على نصيب من الوليمة مجانيا تحت راية اليقظة والوطنية والتصدي للتطرف الديني بخطاب ملوث بالنشاز واللؤم والافتراء تحول فيما بعد إلى استعراض عضلات وتعسف جعل من التجاوزات والانتهاكات مصدرا للتحيل على القانون والدستور ساعدت انجازه في هدوء أحداث إقليمية ودولية ساهمت في تمطيط تداعياته إلى الآن.
وإذ رشحت فئة نخبوية من الانتهازيين نفسها للاستيلاء على بعض مراكز القرار والنفوذ ولبست عباءة التغيير بكل غباء بعد أن انسلخت من جلدها فإن حيلتها لم تنطل إذ ما فتئ النظام أن تقيأ هذه الشرذمة وأوقفها في حدود قيمتها المبتذلة. فكان الصدام المفتعل وانكشف المستور عبر المنابر المشبوهة التي وفر أصحابها تذاكر السفر والإقامة المجانية خارج حدود الوطن من أجل "عيون تونس" وتحول حائط البرلمان الأوروبي إلى مبكى وأصبح بريئا كل من ساهم في توريط النظام في منعرج التغيير في أوائل التسعينات بل أصبح حقوقيا وسياسيا معارضا بارزا كل من ساهم في إفراغ العفو التشريعي العام لسنة 1989 من مضمونه الأخلاقي والإنساني والاجتماعي وتحولت عناوين الخزي والفسق من النظام السابق إلى فقهاء في السياسة ووعاظ ومرشدين يستعرضون بطولاتهم المزيفة في الوطنية وإرساء الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان متناسين ضلوعهم في مآسي حقبة مظلمة من تاريخ تونس حين كانوا في السلطة.
لم يعد التاريخ تاريخا بعد أن تنصل مقترفو النكسات والمآسي في البلاد والعباد من مسؤولياتهم ورموا بالمؤاخذات على عناصر فارقت الحياة وأخرى غادرت البلاد وذلك ليتجنبوا المساءلة والمتابعات التي تضعهم في قفص الاتهام.
ففيهم من استنكف بنفسه وانزوى بحاله في صمت وتأسف بعد أن أخذ نصيبه وأكثر من نصيبه من أيام زمان.
وفيهم من لازمته وقاحته وانعدام حيائه ليطل على ضحاياه من خلال نشر كتب سيرته الذاتية واطلالاته عبر برامج الفضائيات والاستجوابات الصحفية التي لم ينجح إخراجها في إزالة بصمات الزيف والبهتان والنفاق.
وفيهم أيضا من استولت عليه الأوهام وما فتئ يناور بني وطنه من خلف البحار منتظرا ساعة الصفر ليعود إلى تونس عودة البطل المفدى متجاهلا أن التاريخ لا ينتظر أصحاب التفصي من مسؤولياتهم المتسببة في عديد المآسي لآلاف العائلات التونسية وغيرها.
كما برزت أيضا بعد السابع من نوفمبر 1987 فئة من المتسلقين من الذين فاتهم ركب التغيير وجنحت إلى التخطيط وتدعيم وابتكار أساليب مقننة للانتهاكات البوليسية والتجاوزات الإدارية للإبداع في التحيل على القانون باسم القانون لاغتيال مبادئ التغيير.
وتضلع المتنافسون على تسلق سلم الولاء والتأييد في تغييب وإقصاء الكفاءات من الإدارة والمؤسسات بذريعة تجفيف الينابيع لتأصيل الظلم والقهر والاستبداد تحت عصى البوليس والقضاء لتركيز دولة الحزب وحزب الدولة حتى ينفر الشعب من منقذه في فجر السابع من نوفمبر.
انطلت الحيلة على هرم السلطة بإرباك المجتمع أمام أنظار الأصدقاء والأشقاء من الدول والشخصيات العالمية.
ولكن الثورة المعلوماتية ودخول الانترنات والفضائيات على الخط ساهمت في إماطة اللثام عن المسكوت عنه في تونس فتسابق الأنفار والأزلام على أخذ مكان في الصورة وتحول الضحايا إلى سلعة قابلة للمتاجرة والمزايدة في بورصة حقوق الإنسان
لقد تحولت الوقاحة السياسية والحقوقية إلى سمة بارزة في مواقف نخب المعارضة السياسية وسلوكياتها التي تجعل من عزوف الشعب بمختلف شرائحه أمرا واقعا يرفض التعاطي والانسياق مع مؤسسات المجتمع المدني الملوثة بالتناقضات والوقاحة والابتزاز الذي اتخذ من العنصرية النخبوية جدارا تختفي وراءه أصناف وأشكال من أساليب النفاق والبهتان السياسي والحقوقي بالتحالفات المشبوهة .
لقد اختلط الحابل بالنابل وتأجل موعد تفعيل وإرساء الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان بنسق يتوافق مع طموحات الشعب التونسي.
تولدت الانتهازية السياسية وصاحبتها الوصولية الحقوقية ورافقهما تسلق سلم الولاء والتأييد في مسالك النفوذ ومراكز القرار الذي زاد في الشرخ مأساة الأزمة التي تعيش تحت وقع تلوث الأذهان بآليات الترغيب والترهيب لفرض الأمر الواقع.
عديدون من لهم رجل في المعارضة وأخرى في النظام.
عديدون من لهم يد مع المعارضة وأخرى مع البوليس.
عديدون من ينشرون مقالات نقد للنظام القائم بعد موافقة واستحسان أجهزة السلطة.
عديدون من يتوسلون ويتسولون أطرافا نافذة في مراكز القرار للانخراط ولعب دور المعارض السياسي والحقوقي المزيف لتكريس الازدواجية وانفصام الشخصية النخبوية.
إنها الوقاحة السياسية والحقوقية التي تنحرف بالمسار الديمقراطي نحو الحضيض.
عديدون من يتظاهرون بالتصلب في المواقف السياسية والحقوقية في النهار ولكنهم يهرولون في المساء لتقديم شواهد الإخلاص والولاء لرموز أجهزة السلطة حتى لا يقع تصنيفهم في خانة المعارض والمشاكس وذلك حتى لا تعتريهم انعكاسات ردة الفعل.
إنها النذالة والسفالة السياسية والحقوقية التي أنتجت فئة نخبوية متشرذمة تتحاشى التضحية من أجل المبادئ والثوابت والمواقف بل ما فتئت تسعى إلى التمعش من مأساة غيرها دون أن تسعى إلى إزالة الغمة عن ضحايا التجاوزات والانتهاكات.
عديدون من النخبة المتشرذمة من يتسابقون ويتنافسون على الحصول على حوالات وجرايات من منظمات وجمعيات وهياكل أجنبية تعمل على تركيع الشعب التونسي من خلال حاجياته الأساسية.
عديدون من المعارضة والأزلام الحقوقية المعروفة في تونس وخارجها من يسامرون الجلادين والمجرمين في أجهزة البوليس وذلك في النزل والمطاعم الفاخرة بعيدا عن أنظار الفضوليين.
عديدون من يكاتبون دوريا الأجهزة المخابراتية في تقارير مفصلة يذكرون فيها الأنشطة المفصلة لأحزابهم ومنظماتهم المعارضة.
لهذه الأسباب وغيرها خيرت أن أختلي بنفسي دون أن ألحق ضررا ماديا أو معنويا بأحد وفضلت أن أنظر إلى الحراك السياسي والحقوقي المعارض من ضفة سيادة الرئيس زين العابدين بن علي فقد يمكن لي أن أجد سبيلا للمراضاة وإزالة حدة التباين في بعض المواقف والوضعيات.
ولكن يبدو لي أن الشلل الفكري أصاب اجتهادات الزعامتية المفتعلة لدى بعض القيادات المزعومة التي أفلست حوانيتها وبارت تجارتها السياسية بعد أن تحولت مصالحها الخاصة إلى أولوية حياتية في معالجة أزمة الساحة السياسية والحقوقية في تونس.
قد يكون الصمت اختياريا.
وقد يكون قسريا.
وفي كلاهما تكمن في مسبباته بيت الداء.
حين يتمرد الصمت على الكلام تحدث رجة تستوجب مراجعة الثوابت والمرجعيات لترميم القاسم المشترك مع الآخر.
وحين يتمرد الكلام على الصمت تحدث زوبعة في فنجان.
الصمت يضع صاحبه في قائمة سوداء.
والكلام يضع صاحبه في زاوية سوداء لأن كاسر الصمت يضع نفسه في متاهات تكلفه باهضا حتى تجعله يزيغ عن المنهج والموضوعية فينحرف بتنميط المبادئ والثوابت.
إن المواجهة بين النقيضين تستوجب التحدي والتحدي يستلزم وعيا بالإمكانيات والآليات وفي غياب هذه المعطيات تكون مراوحة المكان شكلا يفرض الأزمة بانسداد الأفق.
إن قصر الذاكرة ونكران الجميل وسوء التعامل مع الأمانة التاريخية يجعل التعاطي السوقي مع مستجدات الأحداث رهين مزاجية توجهات أزلام ادعت أنها تمثل المعارضة السياسية والمدافعين عن حقوق الإنسان في تونس.
لقد احترف "نشطاء" المجتمع المدني في تونس طمس الحقائق بالقفز من ضفة إلى أخرى حسبما تقتضيه الظروف والمزاج والمصالح إذ تسابق بعضهم وتودد بعضهم الآخر نحو خصمه السياسي وادعى بعضهم أنه مناضلا من الرعيل الأول وتملق بعض آخر للحصول على فتافت من الوليمة وحين طارت ثمالة صاحب الحسم والعزم نفض الخفافيش وغبارهم فاحتجت عليه الحشرات ولكن ما بال المرء حين ينبح كلب على طائرة.
إن كسر الصمت لا يملئ الفراغ بالظهور عبر محاكمات التهريج السياسي لاجترار الخواء الفكري في غياب الاجتهاد والمسؤولية السياسية والحقوقية.
إن المصارحة والمكاشفة لا تأتي بأسلوب تقليم الأظافر وتنميق الهفوات في شكل يظهر محاسن القشور ويبرز لمعان اللون دون الغوص في بواطن مكونات الرائحة وعواقبها التي اجتازت حدود الوطن.
إن الانفتاح لا يعني الميوعة والتسيب.
وإن الانضباط والالتزام لا يفيد التحجر والتذيل.
وإن الديمقراطية ليست وصفة حضارية تعني الفوضى والانقلاب على السائد من الثوابت والمرجعيات التي تحترم الأخلاق والذوق العام.
من لا يحاسب نفسه لا يمكن له محاسبة غيره إذ بين المجاملة والمراوغة يرفض المتلقى النشاز لأن عاشق الحياة يرفض الخوف والجبن والنذالة.
ولكن بين هذا وذاك تولد التشرذم والتهميش ليتحول إلى عنصر أساسي تتخذ منه أجهزة الدولة أداة للمبارزة السياسية التي أنتجت من الخصومة الفكرية والاختلاف في الرأي عداءا سياسيا يقصي صاحبه من المجتمع بل من الحياة بعد رفضه الوصاية والاحتواء والقفز على الأحداث.
وللحديث بقية....


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.