بقلم: د.ابراهيم البرتاجي - الشّعب يريد دكتاتورا... هذا ربّما ما يجول بخاطر جانب ممّن ينادون برئيس منتخَب من طرف الشّعب. والملاحظ في هذا الشّأن أنّ البعض يحاول تقديم مسألة إجراء انتخابات رئاسية عن طريق الاقتراع العامّ وكأنّها من بديهيات الأمور. والحال أنّ الأمر يتعلّق باختيار خطير لا يجوز التّعامل معه بمنطق الحسابات السّياسية الضّيّقة؛ والسّؤال الّذي يفرض نفسه هنا يتعلّق بجدوى انتخاب رئيس الدّولة من طرف الشّعب، أي هل أنّ هذا الحلّ من شأنه أن يعود بالفائدة على البلاد والعباد؟ عند سماع المتحمّسين لانتخاب رئيس الجمهورية من طرف الشّعب، وهم في مجملهم معنيون شخصيا بهذه المسألة، لا نجد في كلامهم حججا تبيّن كيف أنّ هذا الاختيار يساعد على دفع البلاد نحو الرّقيّ، وذلك بالاستناد إلى أمثلة لدول ازدهرت بسبب اتّباعها هذا النّهج، وأخرى بقيت متخلّفة لأنّها أصرّت على عدم اتّباعه. لم يقع الاستنجاد بمثل هذه الأمثلة ربّما لأنّها غير موجودة؛ وفي المقابل تمّ اعتماد أسلوب المغالطة عوض الإقرار بشجاعة أنّ الديمقراطية لا يمكن أن تكون الا برلمانية. مغالطة أولى : التّوازن بين رأسي السّلطة التّنفيذية تتمثّل المغالطة في اعتماد منطلق خاطئ ينطلق البعض من مسلّمة مفادها أنّه يتعيّن أن نجد في أعلى السّلطة التّنفيذية رأسين متساويَي النّفوذ، ثمّ يتمّ الشّروع في التّفكير في كيفية تجسيم ذلك. هذا الكلام لا يمكن الأخذ به لا من النّاحية القانونية ولا من حيث الجدوى السّياسية. من زاوية القانون الدّستوري، لا يصحّ هنا الاستناد إلى مبدإ الفصل بين السّلط الّذي لا يعني إطلاقا التّوازن داخل كلّ من السّلط التّشريعية والتّنفيذية والقضائية إنّما يعني هذا المبدأ أنّ كلّ سلطة تمارس اختصاصها باستقلالية وأنّه في خصوص العمل السّياسي يتعيّن اجتناب هيمنة إحدى السّلطتين التّشريعية والتّنفيذية على الأخرى. فالتّوازن المنشود هنا هو بين هذين السّلطتين ولا في خصوص ما يوجد داخل كلّ منهما. وبالنّسبة إلى السّلطة التّنفيذية، يمكن القول إنّ الأمر الطّبيعي هو أن تكون ذات رأس واحد، وهو ما نجده في مختلف بلدان العالم؛ فإذا ما تعلّق الأمر ببلد متطوّر سياسيا، نجد غالبا في أعلى الهرم رئيس حكومة ؛ أمّا إذا تعلّق الأمر ببلد متخلّف سياسيا، فنجد في أعلى الهرم رئيس دولة سواء كان ملكا أو رئيسا منتخبا وإذا نظرنا إلى المثال الفرنسي، نراه اليوم متأرجحا بين هذين الحدّين بحسب الأغلبية البرلمانية وفي كلّ مرّة لا يخلو الأمر من صراع وهزّات. ولا شكّ أنّ الحرص على فاعلية عمل السّلطة التّنفيذية يقتضي أن تكون هياكلها تحت رئاسة مسؤول واحد أمّا إذا وجدنا مسؤولين في أعلى هذه السّلطة، فسنكون أمام فرضيتين, إمّا أن تكون أغلب الاختصاصات في يد أحدهما، ونكون بذلك احترمنا وحدة السّلطة التّنفيذية وإمّا أن يكون هنالك تقاسم بالتّساوي للاختصاصات بين المسؤولين، وهو ما من شأنه أن يولّد تصدّعا وصراعات متواصلة وتمييعا للمسؤولية وفي النّهاية تعطيلا لسير دواليب الدّولة وإضرارا بمصلحة البلاد. وبذلك يكون التّوازن المتحدّث عنه لا معنى له من النّاحية المؤسّساتية إنّما يكمن معناه في التّوازن بين مختلف المصالح الحزبية وفي اقتسام ما يُعتبرعند الكثير غنيمة. مغالطة ثانية : رئيس منتخَب من طرف الشّعب وصلاحياته محدودة الضّدّان لا يجتمعان! هذا ما يمكن أن نقوله في خصوص هذا المَخرج الّذي يقترحه البعض للوصول إلى رئيس منتخَب لكن مختلف من حيث الصّلاحيات عن الرّئيسين السّابقين. ومن هذا المنظار يصبح انتخاب رئيس الجمهورية عن طريق الاقتراع العامّ هدفا في حدّ ذاته وأمرا عبثيا فما معنى تجنيد الشّعب لانتخابات عامّة إذا كان الأمر يتعلّق بمسؤول له صلاحيات الرّئيس الحالي أو أكثر بقليل؟ تنظيم السّلط العمومية يجب أن يخضع إلى منطق التّناسب في خصوص الوسائل القانونية المعتمدة، وهو منطق نجده حاضرا إلى حدّ ما في القانون الحالي المنظّم للسّلط العمومية وإن كانت بعض الضّغوطات أدّت في نهاية الأمر إلى توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية. بالإضافة إلى هذا ليس من الواقعية في شيء القول بأنّ الرّئيس المنتخَب من طرف الشّعب سيقف عند الصّلاحيات المحدودة الموكولة له دستوريا فباسم المشروعية الشّعبية سيسعى هذا الرّئيس شيئا فشيئا إلى التّحكّم في مختلف دواليب الدّولة خاصّة إذا شملت تلك الصّلاحيات سلطة التّعيين. وإذا نظرنا إلى الدّستور الفرنسي في هذا الشّأن لا نراه يعطي المرتبة الأولى في السّلطة التّنفيذية لرئيس الجمهورية لكنّ الرّئيس اكتسب تلك المرتبة خاصّة منذ أن أصبح ينتخب بالاقتراع العامّ أي منذ 1962. والجميع يعلم أنّ هذا التّطوّر سمح للجنرال "ديغول" بالانسياق أكثر نحو نزعته الدّكتاتورية فتجاهل الدّستور وأحكم قبضته على مفاصل الدّولة حتّى كتب فيه فرانسوا ميتران كتابه الشّهير "الانقلاب الدّائم". انتخاب رئيس الجمهورية من طرف الشّعب هو دائما باب مفتوح على الدّكتاتورية؛ فباسم المشروعية الشّعبية سيسعى الرّئيس المنتخَب إلى التّغوّل ولا شكّ أنّ جمهور المتزلّفين سيساعده في ذلك كما ساعدوا غيره وإذا نظرنا إلى مختلف بلدان العالم نجد شبه تطابق بين الدّول المحكومة بأنظمة دكتاتورية والدّول الّتي ينتخب فيها الرّئيس عن طريق الاقتراع العامّ وعندما نرى اليوم تعجّب البعض من انطلاق الرّئيس المصري الجديد على درب الحكم المطلق فإنّ تعجّبهم هذا يثير التّعجّب ماذا يمكن أن ننتظر من رئيس لبلد متخلّف سياسيا تمّ انتخابه من طرف الشّعب؟ صحيح أنّ المثال الأمريكي يبدو خارج هذا الإطار العامّ لكن وجب القول إنّه في السّابق، حاول بعض رؤساء الولايات المتّحدة الأمريكية السّير على درب النّفوذ المطلق لكنّ النّظام الأمريكي وجد في نهاية الأمر توازنه بفضل الاحتياطات الّتي تمّ اتّخاذها منذ البداية ومنها خاصّة إنشاء برلمان قويّ منفصل كلّيا عن رئيس الجمهورية وبفضل خصال يتميّز بها الشّعب الأمريكي عن غيره من الشّعوب ثمّ إنّه في نهاية الأمر لم يقع اعتماد النّظام الأمريكي في أيّ بلد آخر. مغالطة ثالثة : الرّئيس المنتخَب سيكون حكما فكرة الرّئيس الحكم بين السّلطتين التّشريعية والتّنفيذية وقع تضمينها في الدّستور الفرنسي لسنة 1958 وقد استعملت كحجّة لتشريع انتخاب رئيس الجمهورية عن طريق الاقتراع العامّ. لكن الجميع يعلم أنّها لم تطبّق وأنّ الأمور سارت لا فقط نحو ترأّس الرّئيس للسّلطة التّنفيذية، بل أكثر من ذلك إلى هيمنته على مؤسّسات الدّولة في مجملها. وبذلك فإنّ الحديث اليوم عن رئيس حكم يبدو خارج السّياق التّاريخي بالإضافة إلى أنّه عمليا تبدو هذه الفكرة لا معنى لها إذ أنّ التّناغم السّياسي بين الحكومة والبرلمان لا يترك مجالا لتدخّل سلطة ثالثة للعب دورالحكم وبكلّ صفة تقتضي النّظرة الحديثة لتنظيم السّلط العمومية أنّ الخلافات المتّصلة بمدى احترام كلّ سلطة لصلاحياتها يتمّ النّظر فيها من طرف القضاء الدّستوري. ومن جانب آخرلا يقبل الرّئيس المنتخَب الاكتفاء بدورالحكم وسيعتبرأنّ انتخابه من طرف الشّعب يحمّله مسؤولية البلاد برمّتها وفي هذا الشّأن سيجد دون شكّ من سيحثّه على الإمساك بزمام الأمور مبيّنا أنّ المشروعية المركّزة في شخصه أقوى من تلك الموزّعة على أعضاء البرلمان والسّيرعلى هذا الدّرب يؤدّي إلى إضعاف السّلطة التّشريعية وضرب الدّيمقراطية. وإذا نظرنا إلى رئيس الجمهورية الحالي المنتخَب من طرف البرلمان نراه من حين إلى آخر يهتمّ بمسائل خارجة عن صلاحياته فكيف كان سيتصرّف لو كان منتخَبا عن طريق الاقتراع العامّ؟