بقلم: كمال العلوي - في تقديري المتواضع ، يمسك المواطن التونسي زهرة كثيرة البتلات كلما اقتلع بتلة إلا وأسقط خيارا من الشرعيات الوهمية التي يتعلل بها السياسيون...وفي النهاية ستبقى بتلة واحدة وهي الأصلح والأصدق والأقدر على القيادة ... ما تسوقه جل الأحزاب هو مجرد انتقادات على أداء خصومها جعلنا نشاهد كل يوم مسرحية باهتة يدافع فيها كل طرف عن مرجعياته ورموزها وتمشياتهم التي اعتمدوها في سياقاتهم الخاصة وفي ظروف غير ظروفنا . وعوض أن ينكبوا بكل جدية على قراءة الواقع ومقارعته بما يحملونه من أفكار وإيديولوجيات مما سيحقق التوليف اللازم بين جهد المفكرين في زمانهم وما تتطلبه مشاكلنا من حلول جديدة، فقد انغمسوا في سباق لا ناقة للشعب فيه ولا جمل سباق الشرعيات... معركة لم يكن فيها الانتصار لنا ولقضايانا بقدر ما كان هم الجميع هو إبراز سماحة معتقده وتفوق ما يتبناه من أفكار دون إبراز قدرته على حل مشاكل الواقع ... يواصل الرحالة الجدد تجاهل تيار الواقع المقابل مجتنبين جدل الثنائيات : ثنائية الفكر والواقع خوفا من اهتزاز معتقداتهم و بطلانها حتى إن بعضهم متشبث بأفكار ماركس أكثر من الماركسيين أنفسهم ...الكافرون بالبروسترويكا وما نتج عنها من استقلال دول الكمنولث يريدون إرجاع هيبة الروس كقوة مناهضة للغرب من خلال استغلال مآسينا من فقر وتخلف؛ يريدون القصاص من حلفاء الغرب ويحلمون بإعادة الحرب الباردة من تونس . أما البعض الآخر فيريد بناء نظام قومي ( قامت عليه ثورة) بنفس الطريقة والأدوات ليعيد له مجده ، فصارت ساحتنا التونسية الهشة مسرحا للنصرة والثأر لأفكار سقطت وانتهت في معاقلها لما يحصل خارج حدودنا من صراعات وعنف و ثورات يذكي لدى البعض في الداخل الأحقاد و يؤجج صراعاتها مع خصومها ويجعلها تتصاعد إلى ذروتها في محاولة إثبات للذات والتعويض عن هزيمتها بمنطق القبيلة المكلومة في تمش ورائي يحاول الرجوع إلى مبدإ اللذة الطفولية المتمركزة حول ذاتها ظنا من هؤلاء أنهم يفكرون وهم في الحقيقة يجترون أفكار غيرهم بل يستميتون في الدفاع عنها حتى وإن كانت في قبرها . سيادة العصبيات الفكرية الجامدة الرافضة للإطاحة بالفروض المستقرة وكسرالقواعد الثابتة جعلنا حيال مفارقة الثورة وحراكها وجمود الأفكار وأبوة القائمين عليها والراعين لها كرعاية الدجاجة لصغارها ،( وإنني لأرى التشابه بين ردة فعل الدجاجة على الخطر الذي يداهم صغارها وردود فعل السياسيين العاطفية والتي لا علاقة لها بالمنطق بما تظهره من تشنج وعنف ). فالتصدع الكبير الذي نلاحظه اليوم بين التيارين القومي والإسلامي في تونس وكذلك مصر مرده الثورة الليبية والصراع القائم اليوم في سوريا جعل القوميين يتحالفون مع القوى اليسارية وحتى التماهي مع ما يسمى بالفلول أو الأزلام نكاية في خصمهم الإسلامي الذي هدد وجودهم هناك ، ودون أن يشعرهؤلاء فإنهم يخوضون حربا بالوكالة لا تعترف بالحدود دفاعا عن آخرين غائبين في انحياز واضح لولاءاتهم الفكرية الراسخة ...ومن فترة بعيدة من فصول تاريخنا يطل علينا التيارالإسلامي المتشدد ليقيم دولة الخلافة رافضا كل الآخرين ، مكفرا البقية؛ يقدم بضاعته بعيدا عن أمراضنا كالعادة كما يفعل غيره ...كل هؤلاء يعتبرون أن تونس أرض ميعاد لتسود أفكارهم .... في وضع يفترض التفكير الجدي لتلبية مطالب الحياة المتغيرة ووسط هذاالفضاء الخصب المفتوح لم تقدم النخبة أي حلول ولم تقترب من المواطن لتطمئنه بل كانت حاضرة للتعزية فقط وأخذ صورة بجانب الضحية والتعبير عن المساندة ... طبقة فكرية قاصرة ومكبلة بإديولوجيا عمياء وقاتلة لم تستطع التخلص من أحقادها مما جعلها في اغتراب عن واقع الثورة... استنزفت هذه الأحزاب قواها -المتهالكة أصلا- في إظهارعيوب الآخر وشيطنته و تبوأ موضع الطهر المطلق في حين كان الآخر الشر الدائم جعلها تفقد يوما بعد يوم تأثيرها ليقتصر فقط على مناضليها المقربين بينما يرغب الرأي العام الجمعي عنها. وتتوسع كل يوم دائرة العازفين عن السياسة لتنمو النزعة الفردية في بيئة خربة، آسنة تنبعث منها رائحة عفن السنين الطوال من الفساد، نزعة بلا قرار مكين تتمظهر في الفوضى والانخرام وغياب القانون والتسابق نحو تحقيق مكاسب مادية : بناء فوضوي ،تهريب ، غش واحتكار غياب عن العمل، تهاون في أداء الواجب... من خلال ذلك يسعى كل شخص إلى تأمين وضع مريح لنفسه . هذه المرحلة الحساسة من تاريخنا قد تطول وقد لا نعيش لنرى رشدها....هذا المواطن الذي لا يقرأ ولا يملك أي رؤية لتطوير ذاته ليتحول من مفعول به إلى فاعل قادر على حل مشاكله بمفرده وأكثر من ذلك له قدرة حل مشاكل الآخرين وكل ذلك لا يمكن أن يكون سوى نتيجة عمل متواصل واجتهاد.... إنه تمش عسير، مع الأسف ، قليلون فقط يؤمنون به ...وسط هذه الظلمة لا أظن أن الأغلبية قادرة على التعرف على البتلة الصالحة، بتلة من المؤكد أنها بلا لون؛ بلا إيديولوجيا؛ ديدنها الوحيد هو التفكير وبأقصى درجات الجدية للإجابة عن الأسئلة ومواكبة حاجاتنا الكثيرة ؛ حاجاتنا المتحركة التي تتطلب فكرا متحركا ...لسنا كفارا ولا رجعيين ولا متطرفين حتى تحقدوا علينا، نحن، فقط ، نلتمس منكم لحظة للتفكير دون أن تطالبونا أن نفكرمثلكم ...