لا يمكن الحديث عن ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية، وما يجري حولها من مضاربات دون التطرق إلى واقع أسواق الجملة باعتبارها المنبع الأساسي في ترويج هذه المواد بعد تجميعها وعرضها من قبل المنتجين. هذه الأسواق التي تعتبر المسالك الأساسية لجملة المواد تشكو خللا كبيرا في نشاطها، ولم تتخط منذ سنوات جملة من الصعوبات التي تعاني منها الأطراف الفاعلة فيها من فلاحين وتجار تفصيل، وهو ما زاد من تخبطها في جملة من المشاكل والصعوبات التي أفضت في نهاية المطاف إلى خلل كبير في أسعار الجملة التي تبقى متدنية أو مقبولة داخلها لكافة المواد المعروضة وأسعار التفصيل التي حلقت عاليا وفاقت كل التقديرات التي تعرض بها لدى باعة التفصيل في الأسواق البلدية اليومية. ومجمل القول أن الدخلاء الذين يمثلون الوسطاء في عمليات البيع داخل أسواق الجملة هم من يمثلون الداء وسبب البلية، حيث تراهم يمثلون ضغطا يوميا على الفلاح للتفريط في منتوجه بأثمان بخسة، بينما يوظفون على بيعها بالتفصيل معاليم متعددة ترتفع من خلالها أسعار التفصيل، ولا تصل إلى المستهلك إلا وقد كانت في مستوى لا يطاق. هؤلاء الوسطاء الذين هيمنوا على أسواق الجملة باتوا يتحكمون في الأسعار ومؤشراتها، ولم تعد تنفع معهم أية خطة تضعها وزارة التجارة، بل فرضوا نسقا للتحكم في الأسعار وتحديدها طبقا لأهوائهم ولا يمكن مقاومتها حتى في ظل وفرة الإنتاج، أو تحرك التعاضديات المنتصبة داخل أسواق الجملة التي تسعى إلى تعديل الأسعار بما توفره من مساعدات للفلاحين الذين يرفضون التعامل مع هؤلاء الوسطاء. إدارة أسواق الجملة ووزارة الإشراف سعتا في عديد المرات إلى وضع خطط لتطوير مجال أسواق التوزيع والحد من هيمنة الوسطاء داخلها، لكنها في كل مرة تصطدم بصعوبات هذا اللوبي الذي مثل أخطبوطا لا يمكن التصدي لكافة مجالات نشاطاته الواسعة. ومن هذا المنطلق تواصلت هيمنته على مجالات نشاط السوق وتحكمه في الأسعار وسيطرته على الفلاحين. ولعل الأغرب من ذلك أن نشاط الوسطاء تعدى مجالات السوق وفضاءاتها ليصل إلى الفلاحين في مزارعهم، ويفرض عليهم نسق تعامل آخر يتمثل بالأساس في شراء جملة الخضر والغلال على عين المكان، و تحويل وجهة عرضها خارج السوق وضمن الأسواق الموازية، وهو ما زاد في ضبابية الوضع وألهب الأسعار التي لم تعد تخضع للعرض والطلب بل إلى مقاييس أخرى يضعها هؤلاء الوسطاء. هكذا غاب دور أسواق الجملة بصفتها المسالك الرئيسية لتوزيع جملة المواد من الخضر والغلال والاسماك وغيرها وغاب معها نسق العرض والطلب العادي الذي تتحدد على قاعدته أسعار الجملة، وفسح المجال واسعا أمام عمليات المضاربة لكافة أنواع الإنتاج، ولم تقدر آليات المراقبة على فك لغز ارتفاع الأسعار، بل إنها لم تعد قادرة على مجابهة اللوبي الذي طالت أياديه كل مواقع العرض والإنتاج. ومقابل عجزها عن التصدي لما يحصل باتت تبرر ذلك من خلال خطاب خشبي يتحدث حول تقاطع الفصول والنقص في الإنتاج وغيرهما من التبريرات الواهية مثل عمليات التهريب وغيرها من الأحاديث التي ما عاد المستهلك يستصيغها.