بقلم : محمّد المهذبي - ما ينبغي علينا الانتباه إلى أنّ الفترة الانتقالية التي نعيشها تمثّل مرحلة إعادة تأسيس لغوي. بل إنّ كتابة الدستور هي فعل صياغة وتأويل لغوي بالدرجة الأولى. فاللّغة أداة الحواربين أفراد المجتمع وأساس التفاهم بينهم، بقطع النظرعن كونها أحد رموز سيادة الدولة. وإذا كان هناك إجماع فيما يتعلّق باللغة الوطنية، مثلما تبيّن خلال النقاش المحتدم حول الفصل الأوّل من الدستور، فإنّ اللغة المتداولة في وسائل الإعلام وفي المحيط تبدو أقرب إلى التذبذب بسبب غياب المرجع الجامع الموحّد؛ يكفي للتأكد من ذلك أن نتابع حصص حوار أو ريبورتاجات بوسائل الإعلام التونسية دون الحديث عن مواقع الانترنات؛ وللمتأمل أن يلاحظ أنّ جزءا لا بأس به من الخلافات ناتج عن سوء استعمال أو فهم للغة التخاطب، أوعن اختلاف في المرجع. وستكون لذلك انعكاسات لا يستهان بها على الوحدة الوطنية وعلى مستقبل الثقافة في البلاد. فاللّغة المتداولة تبدو منفلتة من عقالها ولا تستند إلى أيّة معالم تحدّد اتجاهها. ويبدو وكأنّنا ما زلنا نتحسّس الطريق بين لغة فصحى واضحة وموحّدة، وإن بدت للبعض أحيانا بعيدة عن الجمهور وعن نبض الحياة اليومية بسبب إهمالنا لها، ولغة دارجة أكثرانسيابا ولكنّها تختلف باختلاف الجهات والأجيال بل وحتى الطبقات الاجتماعية، مع حضور يزيد أو ينقص للألفاظ والتعابيرالأجنبية. إنّ استعمال الدارجة في بعض وسائل الإعلام وفي المحيط بشكل مكثّف و"عشوائي" قد لا يخلو من المخاطر على الوحدة الوطنيّة، لا سيّما في فترة ضعف الدولة وظهور الكثير من القوى "النافرة" المتحدّية للسلطة السياسية المركزية إضافة إلى مجموعات سياسية أو دينية جديدة تتبنّى اتجاهات عقائدية متضاربة. ثمّ إنّ انتشار وسائل الإعلام الجهوية بدأ يحمل معه بوادر تنوّع ثقافي مستحبّ شرط أن لا يؤدّي، بفعل استعمال اللّغة الدراجة المحليّة والتركيز على الخصوصيّات الجهويّة، إلى إضعاف الروابط الموحّدة. يبقى أنّ ما يعنيه البعض ب "اللهجة التونسية" أو "اللغة الدارجة" بإطلاق هوفي الواقع لهجة أهل العاصمة التي اكتسحت وسائل الإعلام الوطنية وجزءا لا بأس به من المحيط بواسطة الإشهار خاصة، بما في ذلك الذي تقوم به بعض المؤسسات الرسمية. وكأنّ لهجة العاصمة بصدد التحوّل إلى لغة دارجة موحّدة على المستوى الوطني، ممّا يؤدّي إلى القضاء على التنوّع في اللهجات الدارجة كثروة لا ينبغي التفريط فيها، فضلا عن احتمال إثارة النعرات الجهوية. ولكنّ ما نسميه لهجة العاصمة هو في الحقيقة خليط تتخلّله اللغة الأجنبية أحيانا وتتسع فيه الفروق بين "لغة" الشباب ولغة الكهول، وهي لغة ابتعدت كثيرا لا فقط عن الفصحى بل أيضا عن اللهجة "الأصلية" في العاصمة وكذلك عن باقي اللهجات التونسية. ولمواجهة هذا الوضع فلا مفرّ من تشجيع لغة موحّدة تستند إلى هيئة عليا في شكل مجمع للّغة الوطنية يكون بمثابة المعجم الحيّ الذي يعترف الجميع بسلطته. ولعلّ الوقت حان للتفكير في إيجاد مجمع تونسي مستقلّ للّغة العربية، لا الاقتصارعلى دمج العمل المجمعي اللغوي في مؤسسة شاملة للغة والآداب والعلوم مثل بيت الحكمة. أمّا في غياب ذلك فقد نجد أنفسنا، في المدى المتوسط، إزاء خيارين أحدهما اعتماد اللغة الدارجة لتعويض الفصحى، مثلما اقترح البعض، ولكن ينبغي في تلك الحالة تحديد الدارجة التي نقصدها. وحتى إن اختلقنا دارجة موحّدة بين سكّان البلاد التونسية فسيكون ذلك مكلّفا من جميع الوجوه، دون أن يؤدي إلى نتيجة إيجابية بالضرورة. أمّا الخيار الثاني فهو اعتماد اللغة الأجنبية (الفرنسية) كما حصل في بعض البلدان الإفريقية، وهي وإن كانت اللغة الأولى عند جزء من النخبة حتى على مستوى التخاطب اليومي، ولغة وحيدة للإشهارفي بعض أحياء العاصمة، فلا يمكن فرضها على الجميع لأسباب معروفة. لا يبقى عندها سوى الفصحى التي هي لغة الوحدة الوطنية قبل أن تكون لغة التوحيد القومي العربي. ولعلّ هذا ما أدركه مفكّر بحجم طه حسين، الليبرالي الحداثي، حين دعا إلى الفصحى كلغة ضامنة لمستقبل التعليم والثقافة في مصر. وبعبارة أخرى فإنّ اللغة الوطنيّة لا علاقة لها بالإيديولوجيا الدينية أو القومية أوبمسائل الهويّة، رغم أهميّتها، بل يمكن إثبات ضرورتها من منطلق نفعي يتعلّق بالمصلحة العليا للوطن. فأوّل ما نستفيده من العناية باللّغة الوطنية ونشرها هو القضاء على التذبذب الذهني عند الأطفال والشباب وتقوية الثقة بالنفس لديهم. أمّا الهدف المباشر فهو خدمة الوحدة الوطنية ثمّ المصالح الاقتصادية والثقافية التونسية على المستويين العربي والعالمي. فالريادة العربية التي تحقّقت لتونس، في أكثر من مجال، لا يمكن المحافظة عليها مستقبلا إلاّ بتدعيم امتلاك اللغة العربية إلى جانب لغة أو لغات أجنبية. غير أنّ العناية باللغة الوطنية لا تتناقض مع الاهتمام باللهجات المحليّة في تنوعها على امتداد البلاد. يكفي لتأكيد ذلك أن ننظر إلى المثال الإيطالي أو الألماني أو السويسري. فلم يمنع تطوّراللغة الوطنية، في تلك البلدان، من بقاء اللهجات المحليّة واستعمالها على نطاق واسع. ولعلّه من واجبنا التفكير في حلول دائمة للمسألة اللغوية في تونس بعد أن تعثّرت المحاولات السابقة. ولبلوغ ذلك ينبغي التخلي عن الإيديولوجيا والتجاذبات السياسية مع التركيز على الجانب العملي أي اعتباراللغة أداة للتفاهم والتواصل والوحدة الوطنية في أفق مستقبلي.