بقلم: منجي بن أم هنة - وصلت كتابة الدستور إلى مرحلة مفصلية ، تباينت المواقف والآراء عندها حول ضرورة التنصيص على المرجعية الكونية لحقوق الإنسان وفق الإعلان العالمي الصادرعن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948، أوعدم التنصيص على ذلك بوصفه يتعارض مع بعض محاورالهوية العربية الإسلامية التي أجمع عليها كل الشعب التونسي بكل أطيافه السياسية والمدنية. فما هي نقاط التباعد والالتقاء بين هذين المرجعيتين ؟ وهل يمكن التوفيق بينهما؟ وأي منهما تعلو على الأخرى في صورة التضارب الواضح؟ انبثق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ظرف تاريخي دقيق على إثر حرب عالمية مدمرة كانت لها انعكاسات خطيرة على جميع المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكذلك على إثر صدور مظلمة تقسيم فلسطين إلى دولة عربية ودولة يهودية بموجب القرار عدد 181 لسنة 1947 ، كما تزامنت نفس الفترة تقريبا مع تنامي حركات تحرير البلدان العربية الإسلامية التي كانت ترزح تحت نيرالاستعمار، التي وجدت في مبدإ تقرير المصير المضمن بالأهداف العامة للمنظمة الأممية سندا قانونيا حاجت به القوى الاستعمارية التي تمنعت على تطبيق ما جاء بهذا القرار، مثل فرنسا التي تمسكت باحتلال الجزائر واعتبرتها ترابا فرنسيا اعتمادا على قانون صادر إبان الإعلان عن الجمهورية الثانية سنة 1848 ولم تستسلم إلا بعد أن خاض الشعب الجزائري حربا من أكبر حروب التحرير في العالم. انطلق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من فكرة أصلية تصحيحية للديانتين المسيحية واليهودية ولم يأخذ بعين الاعتبار خصوصيات الدين الإسلامي التي لا نجد لها أثرا فيه بل جاءت بعض مواده مخالفة لثوابته . حتى لا أطيل، وحتى أقرب إلى الأذهان مدى عمق المسألة وحساسيتها فسأكتفي بتناول نقطتين اثنتين من هذا الإعلان، محاولا بسط موقف الإسلام منهما، وأترك البقية إلى كل مهتم للقيام بالقياسات والاستنتاجات الضرورية. المادة 16 : "للرجل والمرأة متى بلغا سن الزواج حق التزوج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين، ولهما حقوق متساوية عند الزواج وأثناء قيامه وعند انحلاله". وفق هذا الفصل يجوز للمرأة المسلمة أن تتزوج من غير المسلم، وهو ما أجمع علماء الأمة على تحريمه، فالإسلام لا يجيز هذا النوع من الزواج بل يجيز للرجل الزواج بالكتابية ولا يسمح للمرأة بعقد مثل هذه الزيجة وهو ما يمكن اعتباره من قبيل عدم المساواة بين الرجل والمرأة عند دعاة المساواة الكاملة بقطع النظرعن حكمة ومقصد الشريعة من هذا التشريع المعمول به في كل بلاد الإسلام بما في ذلك تونس. ويناقض قانون الميراث الإسلامي فكرة تساوي الحقوق أثناء قيام الزواج وانحلاله، فالرجل في الإسلام هو الذي يدفع المهروهو الذي يتولى الإنفاق على الأسرة وعندما ينحل الزواج بوفاة أحد الزوجين تترتب حقوق غير متساوية في الميراث، فالرجل يرث النصف من زوجته المتوفاة في حالة عدم وجود أبناء والربع في وجود الأبناء في حين أن نصيب المرأة عند وفاة زوجها ينزل إلى الربع في حالة عدم وجود الأبناء وينزل إلى الثمن في وجودهم ، كل هذا تكريسا لقاعدة كبرى مفادها أن للذكر مثل حظ الأنثيين في الميراث، وهي قاعدة مازالت قائمة إلى اليوم، وحتى الزعيم بورقيبة لم يجرؤ على تغييرها بعد أن جوبه بصد كبيرلما همّ بفعل ذلك. المادة 19 : "لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية". يُعد هذا الفصل من أكثر الفصول إثارة للجدل حول ما يتعلق بحرية التعبير والإبداع الفني، إذ بموجب هذا الفصل تم تداول فيلم يتناول بصفة كاريكاتورية حياة الرسول الكريم اعتبره المسلمون مسا واضحا من مقدساتهم ، في حين عده الغرب حرية تعبير وإبداع فني ، وسانده في ذلك دعاة الحرية المطلقة بتونس وغيرها من البلدان العربية، وهو ما أدى إلى أحداث السفارات الأمريكية بكل من تونس ومصر وليبيا وما تبعها من توترات أثرت على العلاقات مع هذه القوة العظمى التي تدير الاقتصاد العالمي وما يمكن أن ينتج عن ذلك من تداعيات سلبية على اقتصاديات هذه الدول... لو واصلنا البحث في نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومقارنته بالمرجعية الإسلامية لوجدنا تباينا واضحا يصل في بعض الحالات إلى حدود التناقض ، التي لا يمكن التوفيق بينهما إلا بتغليب إحدى المرجعيتين على الأخرى، وهنا نصل إلى مربط الفرس في طرح السؤال التالي : ما هي الجدوى من حشو الدستور و"تلغيمه" منذ البداية بتناقضات قد تمس من مصداقيته ؟ وتثقل كاهل المحكمة الدستورية المزمع إحداثها بكثرة الطعون في عدم دستورية الكثير من القوانين المعمول بها حاليا في العديد من المجالات. أما إذا كان المقصود بكونية مبادئ حقوق الإنسان تلك المبادئ الكبرى من قبيل المساواة في أصل الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف والمسؤولية والعدل والإخاء بين المواطنين والحرية دون تمييز بينهم بسبب العرق، أو اللون، أواللغة، أوالجنس، أوالمعتقد الديني، أوالانتماء السياسي، أوالوضع الاجتماعي، أوغيرذلك من التصنيفات ، فكل هذا مضمون بالمرجعية الإسلامية المنصوص عليها بالفصل الأول من الدستور؛ تلك المرجعية الإسلامية التي تلتقي مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في جل المبادئ الكونية الكبرى، فلا فائدة من خلق مناطق رمادية أو تناقضات قد تتحول إلى نقاط ضعف تمس من علوية الدستور وتحول الساحة إلى معارك قانونية يستند فيها كل فريق إلى التنصيص الداعم لوجهة نظره، وقد تستغلها بعض التيارات المتشددة في الاتجاهين في التطاول على الدستور وعدم احترام أحكامه. في النهاية لا بد من الإشارة إلى منشإ الجدل الحاصل حاليا حول مبدإ كثيرا ما تردد في متن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، وهو مبدأ المساواة الذي تكلم عنه أرسطو في كتابه" الأخلاق" وذكر أن المساواة لا تعني توزيع جميع خيرات المجتمع بين كل المواطنين بالتساوي و فق عملية قسمة بسيطة بل يجب توزيع الثروة وفق استحقاق كل مواطن واستعداده ووظيفته وهذه النظرة التي تبناها الإسلام ودافع عنها وأقر فيها قوانين وأحكام قطعية الدلالة مثل علم الفرائض أوالمواريث، ووجوب طاعة الأم قبل طاعة الأب، وتخصيص الرجل بالقوامة والجهاد، وتمتيع المرأة برخص عديدة أثناء تأديتها واجباتها الشرعية، كعدم وجوب صلاة الجماعة وإعفائها من الصلاة أثناء الحيض والنفاس، وجواز الإفطار في رمضان أثناء الحمل والرضاعة، وعدم وجوب لباس الإحرام وعدم تقصير شعر الرأس أثناء تأدية فريضة الحج... أما المساواة وفق علماء الطبيعة الغربيين التي ظهرت منذ بداية العصرالحديث فهي مبنية على أساس التساوي الحقوقي بالمفهوم الحرفي للكلمة وهو لب الخلاف الحاصل بين دعاة المساواة الكاملة ودعاة المساواة وفق نظرية العدالة والاستعداد والتخصيص، وهنا يكمن المشكل والحل...