صدرت خلال الايام القليلة الماضية المجموعة القصصية "وجدانيات نسائية" للقاصة والأديبة التونسية آمنة الشعبوني والتي سبق ونشرتها باللغة الفرنسية قبل حوالي أربع سنوات، وهي تعيد إصدارها هذه الأيام باللغة العربية بعد أن قام بالترجمة المنصف الشابي في حوالي 94 صفحة عن دار المغاربية لطباعة وإشهار الكتب.. وامنة الشعبوني تتعمق جيدا من خلال هذه المجموعة في واقع معين للمرأة وفي جانب مهم من حياتها، بسكونها وبتغيراتها، تنظر إليها من زاوية عاطفية رومانسية وأخرى اجتماعية وثالثة سياسية واقتصادية وهذا دليل على عمق ثقافة الكاتبة، فهي تلك الكاتبة المتمرسة، تتربص الحركات والسكنات وتتابع بامتياز ما يجري في الواقع وعلى أرض الواقع، منطلقة من الواقع لتعود إلى نفس هذا الواقع... تنطلق التجربة القصصية للأديبة آمنة الشعبوني من المعيش اليومي ومن الواقع الاجتماعي في أدق تفاصيله لتتبع مفرداته ونقلها من واقعها الواقعي إلى واقعها المتخيل، محاولة صياغة هذا الواقع أدبا مراعية في ذلك البناء الفني الذي يستوعب هذا الواقع والتيمات التي تعالجها والرؤية إلى العالم الذي تنشده.. ومن خلال قراءتنا للمجموعة القصصية"وجدانيات نسائية"نلاحظ بأن القاصة لم تقف موقف الحياد من واقعها المتردي، ويظهر ذلك من خلال رصدها لهذا الواقع القاتم الذي نقلته إلى فضاء المجموعة القصصية بفنية وجمالية ميزته عن خطابات أخرى غاية في الرومانسية بأن أضفت عليها أدبية العمل الأدبي.. رومانسية العنوان وشعرية الغلاف يعتبر العنوان إحدى العتبات الأساسية التي تساعد المتلقي للولوج إلى عمق النصوص باعتباره نصا موازيا لمحتوى النصوص القصصية، فالعنوان هو الذي يساعدنا على القبض على دلالات القصص للمجموعة القصصية، فالمقطع الصوتي "وجدانيات" مقطع هامس بالعاطفة وصائت في نفس الوقت، وسميائية العنوان توازي سميائية اللوحة التي اعتمدتها القاصة والتي تكشف طبيعة المسرح الذي ستجرى فيه أحداث هذه الوجدانيات، وهي العلاقات الاجتماعية التي تعج بزحمتها وتطاول في بنيانها، ولا يمكن للإنسان التغلغل فيها دون لبس القناع من أجل التعرف عليها عن قرب وكشف خباياها المضمرة والمستورة.. والقاصة لا تريد الكشف عن وجه السارد بل تريد ارتداء القناع من أجل التمعن جيدا في سحنات الشخصيات التي تؤثث فضاء قصصها، تريد كشف حقيقتها والتعبير عما يروج في ذهنها من خبث ومكر اجتماعي، معتمدة في ذلك على تقنية التبئير وزاوية الرؤية من الخلف، من أجل التغلغل عميقا في نفسية شخصياتها، كما أنها تتبع شخصياتها تراقب تحركاتها وتحصي أنفاسها، محاولة التعمق في ما يدور في خلدها، كاشفة الغطاء عن مجموعة من السلوكيات الخاطئة التي تسربت إلى مجتمعاتنا، سلوكيات ينبغي تصحيحها بل القضاء عليها.. شعرية العلاقات الاجتماعية وتطرح علينا هذه المجموعة القصصية علاقة الإبداع القصصي بالمجتمع، وما هي التغيرات التي تعكسها القصة باعتبارها الجنس الوحيد الذي يعبر عن قضايا اجتماعية معقدة بأقل الكلمات وبأوضح التعابير، مخلفة أثرا فنيا وجماليا في نفسية المتلقي، كما أن القصة عندما تنقل الواقع فإنها لا تنقله مباشرة وإنما تعيد تشكيله برؤية أخرى تجمع بين المتخيل الواقعي الممزوج بالمتخيل الفني والجمالي.. وأنت تقرأ هذه القصص تشعر وكأن الكاتبة تحمل على كتفيها آلة تصوير أوكاميرا فيديو تنقل فسيفساء الواقع بشكل حركي، تتابعه عن قرب لتأسيس بناء عميق الدلالة قائم على أسس صلبة، وهذه الحركية تظهر من خلال الحوار المتعدد الأصوات والنبرات الساخرة حينا المتأسفة حينا آخر المنهزمة طورا في القصص و في "وجدانيات" يعترض الحبر عما يريد القلم خطه على صفحة الكتاب، وكأن الحبر إنسان يحس بالظلم والطغيان وبالقسوة، إنه يرفض تزوير الواقع، لأن الواقع هو المنخل الذي ينخل الأحداث ويبين صحيحها من زائفها، إن الحبر يرفض هذه الرؤية التي تساهم في بلورة فكر ظلامي قائم على الظلم والقهر، والكاتبة تقصد من خلال هذه الوجدانيات رفض هذا النوع من الفكر الذي يقصي الآخر، فكر يحجر على الأفكار النيرة الآملة في المستقبل الجميل، الأفكار المتفائلة التي تفتح باب الحوار على مصراعيه.. والمجموعة القصصية "وجدانيات نسائية" من حيث الموضوع هي عبارة عن إعادة بناء للعلاقات، وكتابة واقع مرير عانت منه القاصة واختمر في ذهنها ثم نقلته أدبا، إن القاصة تؤرخ لفئة اجتماعية معينة دون سواها، وهي من خلال هذه المجموعة القصصية تعيد تشكيل الواقع انطلاقا من رؤية متناقضة ومتصارعة تساعد على تتبع فسيفساء الواقع في حركيته.. إن القارئ للمجموعة القصصية"وجدانيات نسائية" يشعر بأنها مشكلة من مجموعة من المنجزات القصصية التي تتنوع بين القصيرة والقصيرة جدا، فهي قصص تتصف بالاختصار الشكلي لكنها غنية من حيث المحتوى والبعد الدلالي، تشعر القارئ بومضة مضيئة وخاطفة، تستفزه وتثير فضوله بطريقتها الملغزة والمشاكسة، كما أن الزمن في المجموعة القصصية نشعر به وكأنه حاضر بيننا نلمسه لأنه يجمع بين فضائين، فضاء زمني وآخر مكاني، وبين الفضائين نجد نفسية القاصة التي تساهم في توحيد هذين الفضائين.. فالزمن بهذا المعنى أزمنة متعددة تتعدد بتعدد نفسيات الشخصيات التي تسرد قصصها، ومن خلال قراءتنا للمجموعة القصصية وتفكيك تمفصلاتها القريبة والبعيدة نشعر بأن القاصة تكشف عن هذه الشخصيات بل تتحدث بلسانها موجهة إياها في الاتجاه الذي تريد ووفق الرؤية إلى العالم التي تؤمن بها، معتمدة في ذلك على ضمير الغائب الذي يتيح لها حرية التصرف والتعبير بصراحة عما خبرته على مسرح الحياة.. التخفي إن الساردة تتخفى وراء القناع من أجل تمرير خطاب أيديولوجي مشحون برؤية رومانسية نقدية جادة إلى العالم، من خلال هذه المجموعة القصصية التي تدخل في إطار التخييل الذاتي الذي يجمع بين السرد القصصي والسرد السيرذاتي، تريد من خلال هذه القصص تقديم العالم المتعفن بين أيدي القراء محاولة فضح هذه المساوئ وتقديم البديل عن هذا العالم المتأزم والمليء بالمتناقضات.. كما أن المجموعة القصصية بالرغم من لغتها البسيطة فإنها تدخل في إطار الأسلوب السهل الممتنع، لغة ذات حمولة عميقة فهي حمالة أوجه تغير أقنعتها كلما دعت الضرورة إلى ذلك مستفزة القارئ من أجل إثارة فضوله لمعرفة من يحمل هذا القناع. صحيح إن "وجدانيات نسائية" تبدو بسيطة في ألفاظها لكنها عميقة في دلالتها، تضمر معاني متعددة تتعدد بتعدد القراءات، وكل قارئ يقرؤها في ضوء ما يحمله من حمولة فكرية وأيديولوجية.