- لقد كانت له عدّة تسجيلات والعديد من المذكّرات تخصّ أحاديث دارت في بعض المجالس لشخصيّات سياسيّة وعلميّة خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي أصدرها في كتاب ظهرله سنة 2006 تحت عنوان: "كتاباتي" ونعني به المفكّر والدبلوماسي التونسي، "الدّكتور محمّد الحبيب عبّاس" الّذي توفّي في مفتتح سنة 1996 عن سن ناهزت الثلاث والستين سنة؛ وقد جاء الكتاب القيّم ليثري مخزوننا الوطني في السياسة والعلم والثّقافة والأدب. ومن بين هذه الشخصيّات البارزة الّتي وردت في تسجيلاته نذكرمنها لقاء جمعه يوم 03 ماي 1983 بالوزيرالأول السابق في عهد الزعيم الحبيب بورقيبة المرحوم "الهادي نويرة" السياسي والرجل النافذ وربما كذلك رجل الدّولة بامتيازحيث أورد المؤلف البعض من مواقفه سواء عند تكليفه بالوزارة الأولى خلفا للباهي الأدغم أوعند مباشرته لمهامه السامية على رأس الحكومة التونسية خلال السبعينيات تبين أن هاجسه كان طوال فترة توليه الوزارة الأولى خدمة الصالح العام والنأي عن الأغراض الخاصة وإن اختلفت الآراء وتباينت المواقف عند العديد حول مسيرته السياسية وما آلت إليه الأوضاع الاجتماعية والسياسية بالبلاد أثناء أحداث 26 جانفي 1978 الدامية أومع مايطلق عليه بالخميس الأسود وهي تعدّ في حدّ ذاتها شهادة من التاريخ بالإمكان أن تصحّح تصوّرات أوقراءات أو تفند إدعاءات أومزاعم وربما تضع الأمورفي مواقعها وفي نصابها نوردها كما استقيناها من مصادرها دون النظرفي نوايا صاحبها أو تأويل كاتبها أوفهم قارئها وما أشبه اليوم بالبارحة؛ إذ أن في الظروف الحافة بحكومة الهادي نويرة آنذاك والحكومات المتعاقبة أوجه شبه عديدة ومواقف مماثلة وإن اختلفت الأحداث وتغيرت الأزمنة ويبقى الأثر حاملا في طياته ملامح العصرالذي ينسب إليه ويترجم حال الواقع الذي نشأ فيه. قبول المسؤولية لكن ببعض الشروط وبحيث... «قال له سي الهادي إنّه عندما ذهب إلى باريس لمقابلة الرّئيس الحبيب بورقيبة عندما أراد تكليفه بالوزارة الأولى حيث اجتمع به بمقرّ السفارة التونسيّة بباريس ولمّا فاتحه بأنّه يعهد إليه الوزارة الأولى كان ردّه كالتالي: أقبل المسؤوليّة لكن لي بعض الشّروط. فقال: قبلت وهاتها. قلت له: سأعدّها لك اللّيلة وأتيك بها مكتوبة غدا. وفعلا قدّمتها له في الغد مكتوبة على ورق، وبعد أن أطلع عليها أجابني بأنّه موافق عليها وقبلها. قلت له: إنّ سي الباهي الأدغم لا يزال وزيرا أوّل وإنّي سأطلعه وبقية الوزراء على ما جرى بيننا بالتّفصيل. قال لي: لا مانع عندي !(...) كما أذكرأنّي يوم خرجت من عند الرّئيس يوم قبول شروطي وجدت بانتظاري بالطابق الأوّل من السّفارة زوجة الرّئيس ومحمّد المصمودي والبشيربن يحمد. وقال لي هذا : هل قبلت المسؤوليّة ؟ قلت: نعم ! قال لي: هل تعرف على ما أنت قادم عليه ؟ قلت: نعم ! وإنّي أدرك ذلك وآخذ المسؤوليّة لإنقاذ البلاد وخدمة المصلحة العامّة ولا أهرب من المسؤوليّة. قال: ثمّ شرعت زوجة الرّئيس توجّه إليّ توجيهاتها وتشرح لي تصوّراتها. قال: قلت لها : أنت زوجة الرّئيس وحرم بورقيبة وإنّي أحترمك ولكنّي أرجوك أن تبقي بعيدة عن شؤون الدّولة ولا تتدخّلي. قال: ومن ذلك الوقت وهي تناصبني الموقف. ولمّا علم أحمد المستيري بقبولي بالوزارة قال لي: أنت أوقعت نفسك في التهلكة مع الرّجل الّذي لا يقدّرلأحد جهد ولا يحترم لغيره عملا ونجاحا وقال: وستلقى متاعب ومعاكسات وتألّم ومصاعب. قال سي الهادي: قلت له : طيّب أنت تدرك ما ألقى من مصاعب، هيّا أعنّي على النّهوض بالبلاد. قال: أقبل وأنا مستعدّ. وفعلا شارك معي في الوزارة."(...) الإضراب العام إعلان عن الثورة وفي لقاء جمع الهادي نويرة ببعض الأصدقاء بتاريخ 28 فيفري 1989 أورد الكاتب مقطعا لما أفاض به للحضور: "النقابات عندنا مقلّدة نقابات الدّول الغربيّة اللاتينيّة تقليدا خاليا من الفهم والتصوّرولا مستوى لها لإدراك دورالنّقابة ففي سنة 1977 كانت السنة صعبة في عهدي فتعدّدت الإضرابات وتعرّض الاقتصاد إلى الانهيارفجمّعت النقابات وأطلعتها على الوضع الّذي سيضرّ بالجميع ويسيء إلى العامل قبل أيّ كان ولمّا لم يكن لهم مستوى لفهم الأمورذلك أنّ النقابات تأبى أن تتفهم أوتفهم وهي مشطّة في مطالبها. قالوا: نريد الزيادات في الأجورتصل إلى نصف الرّواتب بينما المداخيل والإنتاج لا يسمحان بذلك قطعا. ومع ذلك قلت لهم إنّي مستعدّ لأصل بالزيادات في نهاية سنوات المخطّط إلى 30 بالمائة شريطة أن يلتزم الجميع بالانضباط وعدم إثارة ما من شأنه أن يعرقل النشاط الاقتصادي أويربكه." "وهكذا تمّ الاتفاق على هذا الأساس، لكن ما راعنا إلاّ والجماعة ينكلون في تعهّداتهم ويصرّون في السنة الموالية على المطالبة بالزّيادة ويهدّدون بالإضراب العام قلت لهم : لن أصرّ على ذلك: إنّي لا أسمح بتهديد الأمن الّذي هو حق المواطن على الدّولة وعلى أن أوفّرالأمن لكلّ المواطنين بالطّرق الّتي يقتضيها القانون وذلك أمرلا جدال فيه ولا أتساهل بشأنه." "قال سي الهادي: فعلا استطعنا أن نطوّرالاقتصاد وأن نحسّن الأوضاع وتنشط حركة التّصنيع والاستثماروالزّراعة. لكن سرعان ما حاولوا إضاعة تلك المكاسب في سنة 1977 لكثرة ما سنّ من إضرابات غير شرعيّة ؛ وتفاديا لمزيد من الخسارة ذهبت إلى أبعد الحدود في إقناع النقابات وتبصيرها بأضرارالاضطرابات وحرصا على خدمة الصّالح العام أقدمت على اقتراح تلك الزّيادة 30% مقابل توفيرظروف مواتية للازدهار والأمن والزّيادة في الإنتاج." "ويوم 25 جانفي 1978 أي قبيل 26 جانفي جاءني أحمد المستيري وحسيب بن عمّاروالباجي قائد السبسي وطلبوا منّي أن أسمح للحبيب عاشوربمقابلتي فقلت لهم أقابله بشرط أن يؤجّل الإضراب العام، أمّا مع الإصرار عليه فلا سبيل لذلك لأنّ الإضراب العام في الأعراف الدوليّة والمفاهيم القانونيّة هوالإعلان عن الثورة بل أكثرمن ذلك أنه انتفاضة. قال سي الهادي: فوعدوا بالمحاولة لإقناعه لتأجيل الإضراب العام واتّصلوا به بعد أن خرجوا من عندي. فلم يتقبّل وأصرّ على تنفيذ الإضراب العام. قال لي سي الهادي: أنا لم أطلب منه إلغاء الإضراب العام بل هو طلب مشروع فيما لوطلب منه ذلك بل طلبت منه تأجيله." "ليضربوا ما شاؤوا وليستمرّوا ما شاؤوا"! » وقال: لمّا كان ثلاثتهم عندي يبحثون الموضوع معي قلت لهم : أنت يا سي أحمد المستيري لمّا كنت وزيرا للدّاخليّة معي وعندما قام عمّال شركة السكك الحديديّة بالإضراب ماذا فعلت ؟ إنّك طوّقت موضع الإضراب بالشرطيّين وأحطّته بأعوان القوّة فلمّا سمعت أنا بذلك ذهبت إلى نفس المكان وقلت لك لا ينبغي أن يكون التصرّف بهذا الشّكل وأمرت بإبعاد أعوان الأمن وقلت ليضربوا ما شاؤوا وليستمرّوا ما شاؤوا ! وهكذا كنت ضدّ فكّ الإضراب بقوّة وضدّ من منع الإضراب بقوّة ثمّ التفتّ إلى الباجي قايد السبسي : أنت كنت تعمل مستشارا قانونيّا للطيّب المهيري الّذي كان وزيرا للدّاخليّة فلمّا حصلت محاولات إضراب كيف كان يتصرّف الطيّب المهيري في مقاومتها ومنعها وإنهائها ؟! أنت تعرف تصرّفاتي وإجرآتي آنذاك. أمّا أنا فلم أسمح بتهديد المضربين ولا بإرهابهم ولا بمحاصرتهم ولا بملاحقتهم. حقوقي