- تعاني الكثير من الدول العربية التي تخلصت من أنظمتها الشمولية من معضلات كثيرة في إعادة بناء الدولة المدنية والسبب يكمن بأن بنية الدولة العربية منذ أكثر من ستين عاما أخذت صفة الدولة الأمنية ذات الحزب الواحد والشخص الواحد وبالتالي قننت الطموحات الشعبية والوطنية لبناء مقومات التحديث والحداثة في العديد من المجالات, ومارست عملية القمع تجاه كافة أشكال الحراك الثقافي والسياسي المدني, وامتنعت عن السماح لمنظمات وهيئات المجتمع المدني, وفي مقدمتها منظمات وجمعيات حقوق الإنسان, في أن تتشكل بصورة طبيعية وقانونية, بالرغم من توافر كافة الشروط, وأحكمت القبضة الأمنية المتشددة على تكويناتها الأولى, ومارست سياسة الإقصاء إزاء التشكيلات الثقافية والحزبية الأخرى التي تتعارض مع نهجها التعسفي أو محاولة الاحتواء للهيمنة عليها, وحرفها عن الأهداف النبيلة التي أنشئت وقامت من أجلها, وذلك عبر ممارسات القمع والاعتقال, ومنعها من ممارسة نشاطها المحدود والمتواضع أصلاً في مجتمع يشكو من أسباب التخلف كحالة عامة وقائمة ونتائجه التي تنعكس سلباً في الواقع الموضوعي. من هنا يمكننا القول إننا لم نكن نمتلك مقومات الدولة الحديثة في عالمنا العربي بقدر ما كنا نعيش في منظومة أمنية محكمة، منغلقة على نفسها، وتحيط نفسها بأوهام المؤامرة ونظريتها التي تشبعت في سلوكيات الحاكم العربي الذي إن لم يجد من يعاديه ويحاربه يفتعل أعداء من داخل الشعب ويقمعهم ليثبت نظرية ترسخت بأن القوة وحدها هي السبيل الوحيد للسيطرة على الشعوب وإن بقاء وجود(مؤامرة) يعني بقاء وجوده في الحكم. وبالتالي فإن أغلب الدول العربية التي خرجت من نير الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية، دخلت في دوامة من الانقلابات العسكرية التي أدت في نهاية المطاف لسيطرة أشخاص في عدة بلدان على مقاليد السلطة بعد أن تخلصوا في سنوات ماضية من(رفاق دربهم)، واتجهت الدولة العربية لأن تعيد استنساخ نفسها ثانية عبر مبدأ التوريث الذي اتجهت إليه كافة النظم الجمهورية في عالمنا العربي على الرغم من إنها قادت(انقلابات) لتغيير النظم الملكية التي وصفها البيان الأول للانقلاب في كل الدول العربية بأنها أنظمة(رجعية) وأعتبر قيام وتأسيس الجمهوريات في الوطن العربي أحد أبرز انجازات مرحلة ما بعد الاستعمار. وبالتالي فإن سعي الزعماء العرب لتوريث أبنائهم مقاليد السلطة يتناقض كليا مع الشعارات التي رفعوها في سنوات حكمهم الأولى من جهة ومن جهة ثانية يكرس حالة ذوبان الدولة في شخص واحد وربط مصير شعب بأكمله بما يقرره(الحاكم المطلق) الذي يمتلك كافة الصلاحيات، وما يمكننا القول هنا بأن مبدأ التوريث يعني فيما يعنيه الجيل الثاني من المستبدين العرب. من هنا نجد بأن الثورات الشعبية العربية انطلقت من مبدأ وشعار لا للتوريث، ثم توسعت وكبرت هذه الشعارات لتصل إلى ما وصلت إليه في يومنا هذا، وحققت في تونس ومصر وليبيا واليمن هدفها الأول في إزالة النظامين ورموزهما والتأسيس لدولة جديدة بحكومة جديدة. والحكومات العربية التي جاءت بعد تهاوي الأنظمة الشمولية عانت كثيرا في بناء المجتمع تمهيدا لبناء الدولة الحديثة، عملية البناء هذه تحتاج لسنوات عدة، خاصة وإن الأنظمة الشمولية حين تتهاوى، تتهاوى معها منظومة كاملة من ركائز الدولة الأمنية سواء الأجهزة الأمنية وما أكثرها، المنظومة الثقافية وإعلام الدولة المهيمن، ناهيك عن الآثار التي تنجم عن حل وتغيير وإلغاء الكثير من المؤسسات الحزبية وما يترتب على ذلك من تداعيات اجتماعية وأمنية على المجتمع ولنا في التجربة العراقية ما يجعلنا ندرك هذا بشكل كبير. وتبرز في ذات الوقت دفعة واحدة تراكمات أخطاء وسياسات الأنظمة الشمولية فيما يتعلق بالتغييرات الديمغرافية للسكان، انتهاكات ومصادرة الحريات لعقود طويلة، البحث عن مفقودين منذ سنوات، مصادرة الملكيات الخاصة لأسباب متعددة، الهيمنة الاقتصادية على موارد البلد، يضاف إلى ذلك كله ما تتركه هذه الأنظمة من ديون مستحقة الدفع لدول عدة. لذا فإن مرحلة بناء الدولة الجديدة كما قلنا تحتاج لوقت طويل، لكنها تحتاج في نفس الوقت لاستقرار أمني وسياسي وإعلامي في البلد، ومن شأن هذا أن يوفر الأرضية الملائمة للإصلاحات المطلوبة لأن تتحقق وأن أي تعكير أمني وسياسي من شأنه أن يجعل مدة الإصلاحات المطلوبة تكون أطول وربما لن تتحقق. وهذا ما يجعلنا ندرك بأن المرحلة الانتقالية التي تمر بها الكثير من الدول العربية ستكون طويلة بحكم الإرث السلبي الكبير الذي تركته الأنظمة المتهاوية بعد فترة حكم طويلة لها.