بقلم: عبد الجليل دمّق حامد أبو زيد، أكاديمي مصري متخصص في تجديد الفكرالإسلامي أنتج عشرات الأبحاث المتميّزة والمثيرة للجدل، كيف كانت مأساته؟ "تعرض لمحنة إنسانية ربما لم يشهدها التاريخ من قبل، عندما قدّم في سنة 1994 مجموعة من أبحاثه للحصول على درجة الأستاذية في كلية الآداب بجامعة القاهرة التي تخرّج منها وعمل فيها، فكلفت الكلية بهذا الملف لجنة علمية ترأسها أستاذ معروف بتعصّبه ومشهور بأشياء أخرى حتىّ إنه لُقّب مفتي شركات توظيف الأموال، فما كان منه إلا أن كفّرالدكتور أبو زيد، واعتبرأن أبحاثه المبتكرة في تأويل النصّ الديني تمثل خروجا عن الملة. وبسرعة تلقّف شيخ مثله ممّن يبادرون من دون حياء بالقيام بدورالله سبحانه وتعالى، فيحاسبون الناس هكذا مباشرة، ويكفّرون المؤمنين ويعاقبون من يشاؤون، متمرّدين بكل وقاحة عن الآية الكريمة "إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم". وما لبث هذا "الشيخ" المهوس أن رفع التقرير ضدّ الدكتورأبو زيد إلى إحدى المحاكم واستصدر في النهاية أندرحكم قضائي قضى بالتطليق والتفريق بين الدكتورنصرحامد أبو زيد وزوجته أستاذة الأدب الفرنسي بجامعة القاهرة السيّدة ابتهال يونس، على أساس أنه لا يجوز لمسلمة الزواج بكافر!!. "وتمضي بنا هذه الحكاية المأساة لتخبرنا أن الحكم أصبح باتا وأنه لم يعد أمام الزوجين السعيدين اللذين أصبحا مطاردين ومهدّدين بشتى أنواع المخاطرإلا أن يغادرا الوطن، فانتقلا إلى أوروبا حيث عمل الدكتورأبو زيد بجامعة "لايدن" الهولندية. وانظروا كيف نقدّم عقولنا المتميّزة إلى أوروبا وأمريكا على طبق من أحكام متعصبة باتة!! "على وقع هذه الحادثة المريعة حدث تعديل تشريعي في مصرلكن بعد خراب البصرة، كما يقول المثل، بالنسبة للدكتورأبو زيد وزوجته. ومع هذا فإن الدوائرالإعلاميّة والفكريّة تُجمع على أنه لم ينقطع عن اجتهاداته الداعية إلى تحريرعقول الناس وأرواحهم من قيود التخلف والانحباس، ومن ركام التأخروضيق الأفق". الأفق الذي أراده الإسلام رحبا متسامحا خلوقا رحيما وعادلا. وإذ نعود إلى العصورالقديمة يحدّثنا حسن جغام في كتابه الوثائقي هذا الذي بين أيدينا والذي يثري المكتبة التراثية التونسية ويدعم البحث الإسلامي، فنجد أنفسنا أمام واقعة شنيعة مماثلة كمأساة إنسانية قد حاقت في تلك العصوربالمفكر صالح بن عبد القدّوس. يقول الكاتب في باب مَن قتل صالح بن عبد القدّوس؟: اختلفت الروايات ولكن أكثرها أجمع على أن المهدي العبّاسي هو الذي اعتقله وتولى قتله بنفسه ثمّ صلبه على الجسروكان شيخا هرما قد فقد بصره". ويروي المؤلف أن "بشاربن برد قد رثى صديقه صالح بن عبد القدّوس بقصيدتين تفجّع فيهما عليه إذ يؤكد بأنّ المهدي هوالذي قتل صالحا، والمعروف أن بشّاركان معاصرا له". ويطرح المؤلف بعض الحقائق الدالة على ذلك: "إبّان خلافة المهدي بن المنصور، اشتدّ الاضطهاد الدّيني والفكري على يد هذا الخليفة، وقد عُرِف عنه أنّه جدّ في طلب كل مخالف له، فيدعوهم بالزنادقة، وإن مثل هذه التهمة من السّهل على المفسدين توجيهها لمن يشاؤون من منافسيهم في السياسة أو في المناصب العلميّة، لأن التهمة لا تتطلب تحقيقا أو إثباتا .. فيقتل أيّ شخص على الظنة، ويعاقَب على الشبهة كل من رمي عنده بالزندقة، كان يتعقبهم بلا هوادة، فشدّد في سفك الدماء وتمزيق الأجساد بكل فظاعة". ويروي "الحنظلي الختلي" الذي كلفه المهدي بالقبض على صالح تفاصيل كثيرة لاعتقاله ثمّ مقتله منها: "أخذت بتلابيبه .. وسمّرت الحديد في رجليه، ثم حملته معي على البريد من دمشق (الشام) حتىّ قدمت به مدينة السلام (بغداد) ثم أدخلته على المهدي.." ويواصل الحنظلي سرد التفاصيل ليصل إلى لحظة القتل: "... ثم قام إليه المهدي بنفسه وانتضى سيفه من جفنيه، ثم ضربه بيده ضربة واحدة جعله قطعتين، ثم أمرني فحملته فصُلب نصفه في الجانب الشرقي والنصف الآخرفي الجانب الغربي". وعلى شاكلة قسوة قطع جسم المفكرصالح بن عبد القدّوس في العصر العبّاسي إلى نصفين، جرى في القرن الحادي والعشرين بالقاهرة قطع عشّ الزوجية بالنسبة للمفكرالمصري نصر حامد أبو زيد إلى نصفين بتهمة أنه كافرولا يجوز لزوجته المسلمة أن تتزوّج بكافر!!! القسوة نفسها والأساليب متنوّعة. قسوة وأساليب تصدم الإسلام والمسلمين وحتى غيرالمسلمين ممّن لهم احترام للدين الإسلامي واعتراف به، وتترك رجال الفكر الإسلامي من المصلحين حيارى إزاء وجود أو عدم وجود الشأن العام الثقافي والمجتمعي والسياسي، وما مصير الزمان الإسلامي وآليات الخطاب الإسلامي والحواروالتفاعل والتلقي والتأثروالتأثيرومعاييرما يسمّونه الموضوعيّة والواقعيّة والإقناعيّة؟ كل هذه التفاصيل والقيم يصدمها الانغلاق المتعمّد والتحجّر"المفبرك" صدما مريعا كواقعة الدكتورأبو زيد التي تكاد تجعل المسلم المصدوم في انفصام مهول يسمّيه البعض من المفكرين "دمارحقيقي". أليس رمي الآخر، وهو مسلم، بالكفروالخروج عن الملة حملا جسيما فوق الطاقة؟ من يتحمل هذا الوزر؟ ثم، وهذا أخطر، أليس في هذا الصنيع الأهوج تزييف لثقافتنا؟ إن القوانين في الحضارة الكونية القائمة في عصرنا تقضي بالحبس والخطايا على مزيفي السلع ومقلدي "الماركات"، فما بالنا بمن يتعمّد تزييف الثقافة؟ ألا يؤدي هذا التزييف والبهتان إلى ضرب ذاتنا الثقافية وجلدها، وإبادة إرثنا الثقافي الدّيني، ومحو تاريخنا وأخلاقنا وآدابنا وفنوننا وكرامتنا؟ فما جزاء هذه الجرائم التي يرتكبها أولئك "الدجاجلة "بترصّد وسابق إضمار؟ ومنهم من بقي إلى الآن ينشرعماه ويزرع شرّا. هذا هوالجرح الذي لا يندمل.. لا يندمل إلا بالنهضة الشاملة. وإننا مع الأستاذ حسن جغام في موقفه المصمّم في مناهضة نظام الحكم الشمولي، ومع ضرورة السعي لرد ّالاعتبار إلى ضحاياه، فإن القتاد والأشواك في جسمنا الإسلامي يقابلها ما كان زرعه منذ القِدم صالح بن عبد القدّوس وما واصله في العصر الحديث الدكتورنصرحامد أبو زيد وأمثالهما من المصلحين، لا بدّ أن يتواصل ويورق وينتج أفضل إنتاج ديناً وثقافةً وحضارة، وإن كتاب الأستاذ حسن جغام إذ يعيد التراث إلى قراءة صحيحة، ويدفع إلى استخلاص العبرة من الماضي البعيد والحاضرالقريب، فإنه أيضا يملأ النفس استعدادا للمواصلة، ويحفزها على التواصل، ويجعل الحزن على هؤلاء المفكرين المسلمين الكبارلا ولن يبلغ درجة اليأس.