دعوة السيد رئيس الحكومة الى عدم التهويل بشأن ما يحدث في البلاد من مواجهات مع الجماعات الإرهابية التي تحولت من التهديد الى التنفيذ بزرع الألغام في المرتفعات وتبشيره قوات الامن بالترفيع في منحة الخطر وتوفير التغطية الاجتماعية برغم غياب النص القانوني، لم تكن والحق يقال، في مستوى الخطر الذي يحدق بالبلاد ولا في حجم التضحيات الجسام والإرادة الصلبة التي أبدتها مختلف القوى الأمنية في البلاد حتى الان. طبعا ليس هدفنا التوقف عند مداخلة رئيس الحكومة وزير الداخلية السابق والتي يحق القول بأنها هزيلة بكل المقاييس وليس في ذلك ثلب أو اعتداء على مكانة الرجل وشخصه، لأن حاجة كل القوات التي هبت للذود عن الوطن وحمايته منذ انطلق حصار الألغام قبل ثلاثة أيام لشحذ عزائمها ودفعها لكسب المعركة التي تخوضها، كان أكبر من كل المنح والاوسمة وكل الذين قدموا حياتهم من قبل في مختلف حلقات المعارك المتقطعة ضد الإرهاب لم يتردّدوا في القيام بالواجب في أخطر وأحلك الفترات. وقد كان أحرى أن يكون الخطاب السياسي في هذه المرحلة تحديدا، واضحا وصارما وبلا تردد، يقول لمن لا يعترفون بسيادة تونس ورايتها أنه لا مكان للإرهاب والارهابيين على هذه الأرض وأن جهود الحكومة والمجتمع بكل فئاته، معارضة وسلطة، سائرة في هذا الاتجاه وستقطع دابر من يفكر في تحويل تونس الى وكر للإرهاب ... حتى مساء أمس وقبل أن يطبع عدد اليوم، كانت المواجهات بين قوات جيشنا الوطني والمجموعات الارهابية المسلحة الدخيلة على بلادنا مستمرة في جبل الشعانبي الذي أعلن منطقة محظورة، ولا أحد بالتالي كان بإمكانه أن يستبق الاحداث ويعرف النتائج النهائية للعملية، التي تابعها التونسيون رغم التكتم الذي فرضته، بكثير من الانشغال على مصير قواتنا ومصير بلادنا... نعود الان للوقوف على هذا المنعرج الجديد في المشهد الراهن في البلاد مع ظاهرة الألغام المزروعة والتي تعرف بأنها سلاح الارهابيين في الحلقة الأولى من الهجمات التي يلجؤون اليها لتدمير الاوطان وتخريب المجتمعات وتقسيم العائلات وزرع الفوضى والخوف في النفوس، وكان ذلك سلاحهم لتدمير الجزائر وحرق لبنان والعراق وأفغانستان، قبل المرور الى المفخخات والمتفجرات في قلب المدن والعواصم. قبل هذه المرحلة انطلقت أصوات كثيرة تحذر وتنبه للخطر القادم وتدعو الى اليقظة ولكن كان رد أصحاب القرار في كل مرة أن لا داعي للمبالغة والتهويل، وكلما سجل حادث مريب في البلاد إلا وحمّل الاعلام المسؤولية عنه واتهم بكل النعوت وحُمّل كل الأوزار . ثلاثة أسباب أساسية ستبقى وراء امتداد ظاهرة الحركات الإرهابية المسلحة في بلادنا، التي لم تعد مجرد أرض عبور كما اعتقد الكثيرون ولكن "أرض جهاد" بالنظر الى أجندة وقراءة هذه المجموعات لمفهوم الشريعة وبالتالي للمجتمع التونسي. أما السبب الأول في اعتقادنا فهو ظاهرة تسرب وانتشار السلاح في البلاد منذ أشهر وعدم الاهتمام بتلك الظاهرة الا بعد أن شاءت الصدف الكشف عن كميات هائلة منه في أماكن مختلفة من البلاد، والتونسي اليوم بات بدوره مهووسا بهذا الخطر والكثير من المواطنين يعتبرون أنه من حق التونسي أن يكون له سلاح يحميه، وهذا بالتأكيد أمر جديد ونتيجة لما عشناه في المرحلة الأخيرة والقناعة بأن كميات السلاح التي لم يتم العثور عليها قد تكون أكبر مما كشف هذا الخطر يضاف له سلاح الانترنت الذي يقدم لتلك الفئة من الإرهابيين كل المعلومات المطلوبة لصنع القنابل وتركيبها دون حاجة للتنقل من مكانها. أما السبب الثاني فهو يرتبط في نفس الوقت بالخطاب السياسي والديني في نفس الوقت أذ أن الخطاب السياسي لم يواكب في أي وقت من الأوقات التحديات الخطيرة التي تواجهها البلاد ولم يكن في مستوى الخطاب المتشدد والمتشنج الذي يروّج له في المنابر والمساجد والذي كان خطابا في أغلبه يدعو للفتن يفرّق ولا يجمع وينفر ولا يقرب ويدعو الى الحقد والكراهية والبغضاء ولا يقوم على تعزيز الوحدة بين أبناء البلد الواحد والأمثلة موثقة وعديدة سواء تعلق الامر بالأيمة في المساجد أو حتى بمن اضطلعوا بمسؤولية في السلطة. أما السبب الثالث فهو طبعا الفشل الأمني الذي رافق عديد الاحداث التي نبه لها الكثيرون من زعماء الأحزاب السياسية منا من المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية وغيرها وهذا الفشل الأمني في تطويق الحركات المتطرفة كان وراء أحداث العنف التي هزت البلاد أكثر من مرة وكادت تعصف بالجميع كل ذلك قبل أن تحدث الصدمة التي اذهلت الجميع يوم أفاق التونسيون على وقع جريمة اغتيال شكري بلعيد ويسفك الدم الذي سيزيل نقاوة وبراءة الثورة الشعبية التي لن تستعيد بريقها وتحيي أهدافها قبل الكشف عن الحقيقة ومعاقبة الجناة... وفي انتظار ما ستؤول اليه الاحداث في مرتفعاتنا المستباحة يستمر استقبال الدعاة الوهابيين لتجنيد من بقي من شباب البلاد الممزق بين البطالة والخصاصة والحرمان وبين جماعات لن تتوانى في استعمال كل أساليب الاغراء والاغواء لسلبهم إرادة الحياة... ومع ذلك فلا نملك اليوم الا الوقوف وقفة رجل واحد مع كل رجال الامن من جيش وشرطة في هذا الاختبار الذي فرض على تونس الخضراء في زمن بائس حوّل الكتاب والأقلام والاسفار الى ألغام وكلاشنكوف وقنابل تضيق لذكرها الصدور والآفاق...