ثلاث سنوات مرت بعد ثورة الحرية والكرامة..لا يمكن الجزم بعد هذه المدة من عمر الثورة وعمر الفترة الانتقالية التي تسير ببطء شديد بأن هدفا من أهداف الثورة قد تحقق فعلا باستثناء حرية التعبير.. المكسب الوحيد الذي ينعم به الناس ففيهم من عرف كيف يستغلها، فهم معناها ومغزاها وفيهم من أعتقد خطأ أن حرية التعبير لا حدود لها فمارسها حتى الفوضى ولم يسأم منها..وفيهم من أهل الإعلام من تعسف عليها فشوه رسالتها النبيلة..وفيهم ايضا من تعمد عبرها الإساءة للغير للأشخاص.. وللوطن.. بوعي او بغير وعي.. لا يختلف اثنان ان حرية التعبير حق طبيعي مقدس لكل مواطن، ومن أبرز تجلياته حرية الصحافة والإعلام.. فعادة يقاس تقدم الشعوب والأمم والدول بمدى احترامها لحرية الصحافة والتعبير، ومدى استقلالية القطاع الإعلامي فيها.. لكن لماذا يشعر التونسيون اليوم، والإعلاميون خصوصا بالخطر، خطر يهدد حرية الصحافة والتعبير؟ هل هناك ما يدعو للقلق، هل هناك تعمد لنزع هذا الحق؟؟ يؤكد بعض الإعلاميين أن هناك ما يدعو فعلا للخوف والقلق من وجود بوادر لعودة بطيئة لتكميم الأفواه، وخنق الأقلام، وهذه المرة قد تكون العودة من باب وجود نزعة إلى سن قوانين زجرية (على غرار ما يوجد من تهديد لحرية التعبير في مسودة الدستور..) أو من خلال تعدد القضايا المرفوعة ضد الإعلاميين والمؤسسات الإعلامية، (تعد بالعشرات) وممارسة الكيل بمكيالين من خلال فتح تحقيقات ضد صحف دون أخرى، واعلاميين دون غيرهم.. او غض الطرف عن قضايا في الثلب والتشهير والقذف والتنكيل والاعتداء بالعنف المادي والمعنوي مورست ضد صحفيين تضرر منها اعلاميون ورموز من اهل المهنة دون أن تتم محاكمة مقترفيها.. وترك المجال لصحف صفراء ومواقع اعلامية تصول وتجول وتنتهك اخلاقيات المهنة واعراض الناس دون قيد او وازع..او خوف من تتبع قانوني.. خوف الإعلاميين قد يكون مبررا خصوصا بعد أن استشعروا وجود مؤشرات حقيقية واقعية خطيرة من شأنها أن تنال من حقهم في التعبير لكن أيضا في نقد الحكام وأصحاب السلطة ورموزها، والسياسيين وتصريحاتهم وممارساتهم، والسعي لكشف الحقيقة مهما كانت مرة أو محرجة،..طبعا في حدود ما يضبطه ميثاق الشرف الصحفي وقانون يحترم في نفس الوقت الحق في الوصول إلى المعلومة، والحق في احترام ضوابط المهنة واخلاقياتها.. تهديدات يومية من المؤشرات الأخرى للعودة إلى تهديد الإعلام والإعلاميين، ما يتعرض له يوميا عدد من الإعلاميين علنا من تهديد بالقتل، والاعتداء بالعنف من قبل أفراد أو مجموعات.. مختلفة المرجعيات الفكرية والايديولوجية والسياسية.. والأمثلة على ذلك كثيرة. واللافت للانتباه أنه بقدر حرص الإعلاميين الشرفاء النزهاء بالمؤمنين برسالة الإعلام والكلمة الحرة على التمسك بحرياتهم مهما كلفهم ذلك من ثمن.. بقدر ما يزداد الضغط المسلط عليهم. فهم دائما وأبدا الحلقة الأضعف في القطاع، لأنهم مزعجون.. فهم دائما أول من يدفع الثمن..فلا غرابة إن تتضاعف عدد حالات الانتهاكات ضد الصحفيين بعد الثورة مرات ومرات، حتى أضحى الاعتداء على الإعلاميين امرا عاديا بما أن الفاعل يظل طليقا منيعا من التتبع.. الإعلاميون اليوم أصبحوا مهددين ليس فقط في حرية أقلامهم وحرية الكلمة.. بل ان نسبة كبيرة منهم مهددة في ارزاقها بما أن عددا من المؤسسات الإعلامية القديمة منها والجديدة قليلا ما تطبق الاتفاقيات المشتركة الموضوعة للغرض، وبعضها لا يعترف بوجودها أصلا، والبعض الآخر يطبق جزءا منها فقط، وفي أغلب الحالات دفع الصحفيون الثمن وأطردوا من عملهم... الإصلاح والتطهير لنتفق أولا أن وضع الإعلام في تونس، وباتفاق الجميع من اهل المهنة او من خارجها.. ما يزال يحتاج إلى الإصلاح والغربلة والتحميص، والتطهير ايضا. فمنذ قيام الثورة لاحت محاولات حقيقية للإصلاح وتنظيم القطاع وتنظيفه من الشوائب التي نخرت جسده سنين طوال.. تنظيف القطاع من أدران الفساد وامراض التملق والنفاق والانبطاحية والانتهازية وهتك أعراض الناس، تنظيف القطاع من صحافة صفراء وبعض الأقلام المأجورة.. استغلها النظام السابق لضرب المعارضين وهتك سمعتهم والنيل من أعراضهم.. تنظيف القطاع عبر اعادة هيكلته واحترام القوانين المنظمة له، وتطبيقها..واعادة الاعتبار للصحفي المحترف، وكنس الدخلاء على المهنة وتوحيد المدخل للمهنة او على الأقل تنظيمه، وتأسيس هيئات تعديلية مستقلة تعنى بذلك دون تدخل من السلطة التنفيذية.. لكن ورغم وجود تقدم في وضع اللبنات الأولى للإصلاح من خلال التوصل إلى وضع اطار قانوني قد يكون مدخلا حقيقيا لتنظيم القطاع، حظي بنسبة كبيرة من التوافق ونعني بهما المرسومين 115، المتعلق بمجلة الصحافة والنشر، و116 المتعلق بالإعلام السمعي البصري.. لكنهما ظلا الى اليوم خارج التنفيذ والتفعيل.. كما باءت محاولات تفعيلهما بالفشل، ولم يتم على الأقل حتى التفاوض بين الأطراف المعنية بهما من اجل تعديل ما يمكن تعديله.. علما ان حكومة السيد حمادي الجبالي كانت قد وعدت مباشرة بعد الإضراب الناجح لقطاع الإعلام يوم 17 أكتوبر 2012، بتفعيل المرسومين لكن للأسف توقفت الأمور عند ذلك الحد.. بل الأخطر من ذلك تواصل اسناد رخص الإذاعات الخاصة، والتلفزات الخاصة في ظل وجود فراغ قانوني مستمر منذ أكثر من سنة ونصف، ازداد وضوحا بعد قرار اعضاء هيئة الإعلام والاتصال التي يترأسها السيد كمال العبيدي تجميد نشاطها..وهي التي كان من بين أبرز مهامها اقتراح قائمة في طلبات الترخيص في الإذاعات والتلفزات الخاصة وفق معايير وضوابط دولية صارمة.. كما ان ما يسمى بالقائمة السوادء للإعلاميين لم تر النور لأسباب قانونية وأخلاقية..لكنها فعلا موجودة وارادة الكشف عنها بيد السلطة التنفيذية التي تمتلك وثائق وادلة عن تورط اعلاميين في الفساد وفي الاعتداء على ميثاق شرف المهنة.. «مكاسب».. هزيلة تبدو المكاسب التي تحققت لأهل القطاع هزيلة وهشة وغير مبنية على "الصح".. فاليوم يشكو القطاع عديد الأمراض والهنات، ليس أقلها الفراغ التشريعي والقانوني بسبب عدم تفعيل المراسيم..التي بسببها حرم مئات الصحفيين الى اليوم من بطاقة صحفي محترف بسبب "خلاف" بين نقابة الصحفيين ورئاسة الحكومة في تنفيذ مضمون الفصل 7 من مرسوم 115 الذي ينص على تشكيل لجنة مشتركة بين ممثلي الصحفيين وممثلي المؤسسات الإعلامية يتراسها قاض لإسناد بطاقة صحفي محترف..(ويبدو أن هذا الاشكال في طريقه إلى الحل).. من باب التجني استباق الرسائل الايجابية التي أطلقتها الحكومة تجاه الإعلاميين من خلال قبولها أخيرا بإطلاق الهيئة المؤقتة التعديلية للإعلام السمعي البصري، (بعد رفع الفيتو ضد عضوية احد مرشحي النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين)، ولقاء رئيس الحكومة أمس بوفود ضمت مختلف العائلات الإعلامية ومنها نقابة الصحفيين، ونقابة المؤسسات الإعلامية، ونقابة الثقافة والإعلام.. فلنتفاءل خيرا من هذه اللقاءات (ليست بجديدة، فقد سبقتها لقاءات مماثلة..) مواصلة النضال لكن المهم في الأمر هو ان يتواصل النضال والتحرك من أجل تحقيق مزيد من المكاسب والتفاف اهل المهنة على هيكلهم النقابي وتوحيد الصفوف ونبذ الخلافات.. فالتهديدات ضد حرية الإعلام والتعبير التي تلوح في الأفق أخطر وتمثل مدعاة للقلق.. كيف لا ومسودة الدستور النهائية تزخر بالممهدات "الدستورية" والعبارات الغامضة القابلة للتأويل التي تسمح مستقبلا في صورة عدم تعديلها بتكبيل هذا الحق وقد نبه اليها خبراء القانون، مثل الفصل 34 الذي ينص على ان "الحق في النفاذ إلى المعلومة مضمون في حدود عدم المساس بالأمن الوطني او المصلحة العامة او المعطيات الشخصية للغير." والفصل 40 في فقرته الثانية وتنص على أنه " لا يمكن الحد من حرية الرأي والتعبير والإعلام والنشر الا بموجب قانون يحمي حقوق الغير وسمعتهم وأمنهم وصحتهم.." فضلا عن باب الهيئات الدستورية المستقلة الذي ينص في الفصل 121على أن :" تتولى هيئة الاعلام تعديل قطاع الاعلام وتطويره وتسهر على ضمان حرية التعبير والاعلام وحق النفاذ إلى المعلومة لارساء مشهد اعلامي تعددي ونزيه." ويتعارض مفهوم الهيئة الوارد في هذا الفصل مع ما ورد في المرسوم 116 باعتباره يؤسس لهيئة شاملة رقابية تهتم بالقطاع الإعلامي ككل، تخضع للمحاصصة الحزبية باعتبار ان اعضاءها سيتم انتخابهم من قبل الأحزاب الممثلة بمجلس النواب او مجلس الشعب، مما يهدد بان تصبح شبيهة بوزارة إعلام.. أما الفصل 116 فهو يؤسس لهيئة تعديلية مستقلة تهتم بالقطاع السمعي البصري، فقط في حين أن الصحافة المكتوبة يمكنها ان تعدل نفسها بنفسها من خلال تأسيس مجلس صحافة مكون من ممثلين عن الصحفيين واصحاب المؤسسات..