بعد أكثر من سبع سنوات على إقراره لا يزال الدستور العراقي موضوع خلافات وصدامات عميقة في بلاد الرافدين، اذ لم تنس شريحة مهمة من الشعب العراقي أن الدستور الذي تم الاستفتاء عليه تحت مظلة الاحتلال كتب بأيد مشبوهة وفرض من قبل كتل سياسية متناحرة من أجل النفط أولا والسلطة ثانيا ودفع بسببه العراقيون الى صناديق الاقتراع في ظروف غير عادية وفي ظل مناخ طائفي وانقسامات خطيرة، بل ان عديد العراقيين يعترفون اليوم بأن الاستفتاء على الدستور تم في زمن الغفلة ومن خلال عملية قصرية في مرحلة كان العراقيون لا ينشدون فيها غير الامن والاستقرار وحقن الدماء وحفظ الأرواح ليكتشفوا اليوم أن الدستور الذي استنزف الأموال والدماء والأرواح انما استمد قوته من التواجد الأمريكي ولا يستحق أن يكون في حجم تطلعات وتضحيات الشعب العراقي الذي اكتوى بنيران ظلم واستبداد الحكام قبل أن جور وحيف الاحتلال... أكثر من سبب يمكن أن يدفع اليوم للوقوف عند ظروف وملابسات بل وانعكاسات الدستور العراقي الذي تطلع اليه العراقيون لتحقيق الديموقراطية المنشودة. قطعا الامر لا يتعلق بمقارنة ظروف وضع الدستور العراقي بما تشهده عملية كتابة الدستور في بلادنا، فلا شك أن العراق قد تعرّض لأكبر مظلمة في التاريخ الحديث عندما تعرّض للاجتياح وبالتالي فإن عملية الانتقال الديموقراطي المستوردة في العراق تأسّست ومنذ البداية على الخطإ، ولذلك فإن ما تحقق لاحقا على مستوى الدستور كما على مستوى مؤسّسات الدولة، لن يؤول الى ديموقراطية صحيحة، بل لعل في المشهد العراقي الذي يتجه اليوم الى الانقسام ومخاطر الحرب الاهلية ما يمكن أن يعزز هذا الرأي. ومن هذا المنطلق فقد يكون في تحذيرات وصرخات عديد الأصوات من مختلف مكونات المجتمع العراقي بشأن الألغام الكثيرة والاخلالات الحاصلة في الدستور العراقي ما يستوجب أكثر من أي وقت مضى الاستماع الى أهل الخبرة من أساتذة القانون الدستوري في بلادنا قبل فوات الأوان وقبل أن تلاحقنا لعنة الأجيال القادمة بسبب مشروع الدستور . ليس سرا اليوم أننا نعيش على وقع جدل لن ينتهي قريبا على الأرجح حول المسودة الثالثة من مشروع الدستور الذي تباينت القراءات واختلفت الرؤى حوله منذ نشره المجلس الوطني التأسيسي على موقعه في 22 أفريل الماضي مذيلا بتصريحات رئيس المجلس «بأنه سيكون من بين أفضل الدساتير في العالم «، لتنطلق بذلك القراءات والتقييمات والمقارنات لثمار عمل نواب المجلس طوال أكثر من ثمانية عشر شهرا بين مؤيد للمشروع و منتقد سواء داخل المجلس أو خارجه. وربما يكون من المهم الإشارة الى أغلب الذين انتقدوا الدستور من الخبراء وأهل الاختصاص من اساتذة القانون الدستوري أقروا بجهود النواب واعترفوا بحصول تحسينات أدخلت على النص الجديد مقارنة بما سبق من فصول ولكن مع التأكيد على وجود ما وصفوه بعديد «الاخلالات والعيوب والنقائص والالغام «. ومن ذلك وعلى سبيل الذكر لا الحصر ما جاء على لسان الأستاذ الصادق بلعيد في أكثر من مناسبة «بأن مشروع الدستور في نسخته الثالثة يحمل على تأسيس دولة اسلاموية وخدمة أجندا وهابية « في المقابل ذهب شفيق صرصار الى التأكيد على وجود «عديد الثغرات والمصطلحات الضبابية التي تم استعمالها في فصول من مشروع الدستور»، واعتمد في ذلك على الفصل 15 واحترام المعاهدات الدولية مستقبلا، الأستاذ رافع بن عاشور انتقد بدوره غياب العديد من المقومات عن النصوص في مسوّدة مشروع الدستور الجديد الذي وصفه بالغموض والتضارب والافتقار للدقة وحذر بن عاشور من وجود مأزق قد يؤدّي إلى خلّو الدستور من الأحكام الانتقالية مركّزا على مبدإ الاحتكار للسلطة وأكّد أنّ الصلاحيات المتعلّقة بالسلطة التنفيذية والمتعّلقة برئيس الجمهورية هي صلاحيات قليلة... كل هذه المواقف وغيرها لخبراء هم اليوم من يدرّسون طلبتنا القانون الدستوري في الجامعة التونسية الى جانب تصريحات عدد من النواب الذين ذهبوا الى حد اتهام المقرر العام للدستور بعدم الأمانة والتلاعب بما توصل اليه النواب من شانه أن يدعو للتساؤل عما اذا كان خبراء القانون الدستوري في بلادنا اتفقوا على أن يجمعوا على باطل ويتحلقوا في حملة لتشويه سمعة المجلس وإنكار جهوده لحسابات سياسية ضيقة أو لأهداف انتخابية استباقية؟ سؤال كم نتمنى على نواب المجلس التأسيسي التعامل معه بكل جرأة وحكمة بعيدا عن الهستيريا او العصبية المفرطة بمنأى عن المكابرة والإصرار على العناد وقبل السقوط في متاهات الانزلاق الخطير نحو الانقسام الاجتماعي الذي قد لا يكون بالإمكان الخروج منه... وبالعودة الى الدستور العراقي الذي شدد في الفصل التاسع منه على حظر تكوين ميليشيات عسكرية خارج اطار القوات المسلحة وهو ما لم يمنع العراق اليوم من السقوط في براثن الميليشيات المسلحة التي تسرح وتمرح في العراق الذي يوشك أن يتحول الى أكثر من عراق ممزق بين جزء شيعي وآخر سني وثالث كردي... طبعا لا أحد يتمنى تكرار السيناريو العراقي الدموي كما أنه لا يمكن لعاقل القبول بدستور لا يرتقي الى حجم حلم التونسيين وتضحياتهم قبل وخلال الثورة وكم سيكون مصيريا أن تجتمع كل الجهود على أن يكون دستور الثورة بين أفضل وأكثر دساتير العالم عدالة وانصافا وإرضاء لتطلعات مختلف مكونات الشعب بما يمكن أن يجنب نوابنا المحترمين بل ويجنبنا جميعا لعنة الأجيال القادمة التي قد تغفر لكل المسؤولين ما استنزف حتى الآن من أموال وجهود لكتابة الدستور ولكنها لن تغفر لاحد مهما كان موقعه مصادرتها لحقها في دستور تفخر وتتشرف بالانضواء تحت رايته والانتساب اليه...