يضع البعض خطأ «المعركة» مع مظاهر الإخلال بالأمن العام، ومحاولات ترويع المواطنين بالشعارات الترهيبية وبالأعلام السوداء، واحتلال الشارع تحت غطاء «الدعوة» والدعوات للتكفير والقتل من أعلى منابر بعض المساجد «المفتكّة» بالقوة أو في الشارع العام أثناء بعض المظاهرات أو على شبكات التواصل الاجتماعي، في خانة صراع بين رؤى وأفكار في المجال الديني بين «متشددين» من ناحية وبين تيارات أخرى عديدة ومتنوعة تذهب من «النهضة» إلى من يدعون بالحداثيين والعلمانيين من ناحية أخرى، بينما الأمر غير ذلك إطلاقا. فليس للدين في واقع الأمر مكان في كل ما حدث وما قد يحدث إذا ما تجاوزنا ظاهر الأشياء إلى باطنها وما وراءها. وما حدث في مدينة جمّال بولاية المنستير وكان واضح «التموقع» والدلالات وما كاد أن يحدث في حي التضامن من نفس القبيل يؤكد ذلك. فقد تصدّى المواطنون في جمّال بأنفسهم لل«عصابات» التي حاولت حرق مركز الأمن وإحداث الفوضى ودحروهم والحناجر تصدح وتدوى بالنشيد الوطني وفي حي التضامن كاد يحدث ذلك، وكان سيحدث قطعا لو تواصلت الاضطرابات. فما حدث بدوار هيشر وحي الانطلاقة قد تكون له دلالات أعمق وأقوى مما حدث في جمّال. فمن يطلق عليهم جزافا ب«المتشددين الدينيين» هم في أغلبهم تموقعهم اقتصادي بالأساس، كما بينته أحداث الأحد الماضي وخصوصا تجلياتها. فإذا استثنينا حفنة من «الشيوخ» ومن محركي الخيوط في الخفاء، ممن لهم ارتباطات ببعض أصحاب الأجندات الخطيرة في الداخل والخارج من «قاعدة» وغيرها، فإن «حطب» المعركة التي يراد إقحام بلادنا فيها ينتمون إلى الطبقات الفقيرة المسحوقة من المجتمع، هم شباب دون ماض ولا مستقبل، ولكن يريدون أن يكون لهم حاضر. أي من عانوا وذويّهم ذل وإذلال الفقر والفاقة للآلة الجهنمية، الاقتصادية والاجتماعية والبوليسية للنظام البائد. هم مَنْ وضعهم لا يحتمل الانتظار والتأجيل. فقد صدّهم الخوف والترهيب والقهر في الماضي وفتحت لهم الثورة بابا واحدا وحيدا وهو الانتقام من جلاديهم، أو من يروهم كذلك وهم البوليس وجهاز الدولة. إن الاستعداء عليهما يمثّل بالنسبة لهذا الشباب، هدفا في حدّ ذاته مهما كانت التعميات لأنهم لا يحسون بأي ارتباط بمجتمعهم لأنهم يجدون أنفسهم يعيشون خارج دائرته فيغلّفون مراراتهم بالشعارات الدينية لل»تسامي» بصراعهم ضد مجتمعهم ووضعه في إطار نبيل حتى يغدو مشروعا ومقبولا. إن البعض من متساكني دوار هيشر وحي الانطلاقة هذان الحيان الشعبيان الفقيران، الذين تحدثوا لوسائل الإعلام حول أحداث يوم الأحد، وأغلبهم تجار بين قصابين وبقالين وبائعي روبافيكا وخضر وغلال كادوا يجمعون لولا بعض الأصوات النشار لمراهقين في أغلبهم دون مواربة على الإدانة والتنديد بمظاهر العنف والتمرد على سلطة الدولة، مما يؤكد المنحى الذي ذهبنا إليه. فالشغل والكفاف، حتى ولو كانا في حدّهما الأدنى يمثلان ارتباطا بالمجتمع، وعزّة وكرامة حرمت منهما فئات من المجتمع. ولذا ف«المعركة» الحقيقية، لا علاقة لها بالدين ولا بهوية المجتمع بل بإيجاد مكان لهذه الفئات تحت الشمس حتى ترتبط شيئا فشيئا بمجتمعها ووطنها وهويته الحقيقية المتوارثة المتراكمة على مر السنين والأجيال. وفي الانتظار لا حل سوى تطبيق القانون والحرص على أن تبقى الكلمة الأخيرة لسلطة الدولة في كل الظروف والأحوال حتى نجنب وطننا التفكك وحتى نعزل هؤلاء المغرّر بهم أي هاته الدمى عن الأيدي الشيطانية التي تحركهم.