تونس الصباح: دشنت اللجنة الوطنية للاستشارة الشبابية، التي يرأسها السيد الصادق شعبان، رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي، أشغال الاستشارة من خلال جلسات إنصات للشباب في جميع الولايات والمعتمديات، عبر حلقات نقاش تقرر أن لا تتعدى الأربعين شابا على أقصى تقدير، في محاولة لحصر النقاش وتكريس هذه الجلسات للإنصات الفعلي لهؤلاء الشباب، بدلا من القيام بمحاضرات وتقديم دروس إليهم، مثلما حصل في مناسبات سابقة.. لقد اتخذت اللجنة الوطنية إجراءات لافتة للنظر، وفق ما يبدو إلى حدّ الآن من سير أعمال النقاشات والأسلوب المتبع فيها.. فقد حرصت على أن تكون حلقات النقاش موزعة على كامل تراب البلاد، من أجل أن تشمل الاستشارة جميع الأصناف الاجتماعية من الشباب، واتبعت خطوة ناجعة عمليا، حيث حددت لكل حلقة نقاش ثلاثة أو أربعة "مؤطرين"، يتولون إدارة النقاش وتوجيهه، بعد أن كانت الاستشارات من هذا النوع وغيره، يحضرها "جيش" من المسؤولين والمربين والجامعيين والمؤطرين و"المتخصصين" في الشأن الشبابي، إلى درجة أن الشباب الذي يفترض أن يناقش ويعبر عن رأيه، يقتصر حضوره على الإنصات لمحاضرات في الأخلاق والسياسة والثقافة والوطنية وغيرها، ليخرج من هناك غير مبال بهذا الحوار، بل غير مكترث للنتائج التي ستتمخض عنه، لأنه في النهاية لم يشارك في صياغتها أو تحديد وجهتها، بل التوصل إلى استنتاجات بشأنها، إنه ببساطة تامة، "استخدم" فقط لإجراء استشارة، ثم تكون النتائج في غير ما توقع أو انتظر، وهذا طبيعي، على اعتبار أن الحصاد لا يكون إلا بقدر حجم الزرع ونوع "المشتلة" التي تم غرسها.. غير أن الحوار الذي فتح مع الشباب، على خلفية الاستشارة الراهنة، يثير في واقع الأمر عدّة ملاحظات أساسية يمكن اختزالها في النقاط التالية: ++ فقد حرص السيد الصادق شعبان في تصريحاته الصحفية حول اتجاهات هذه الاستشارة، إلى التأكيد على أن المهم فيها ليس القضايا الحياتية، على غرار التشغيل وما يتعلق بالطموحات الذاتية للشباب على أهميتها بقدر ما يتركز الاهتمام على المسائل المستقبلية التي تخص تونس واتجاهها المستقبلي، في ضوء وجود حرص واضح على تحفيز الشباب على التفكير والانخراط في المسائل ذات الصبغة السياسية والثقافية والجمعياتية.. وإذا كان من المهم العمل على وضع حدّ لاستقالة الشباب عن النشاط السياسي، باعتبارها تضر بمصلحة البلاد المستقبلية، مثلما تضر بالأفق السياسي والثقافي والفكري للشاب التونسي، الذي يلاحظ المرء درجة التسطيح التي بات عليها في غضون السنوات القليلة الماضية، فإن من المهم أيضا، ليس الحديث عن السياسة والعمل الجمعياتي، بقدر ما يكمن الأمر في فتح مجالات العمل السياسي والانخراط في الشأن العام، وهو ما لن يتوفر إلا بجرعة إضافية من الحريات في المجالات الفكرية والثقافية والسياسية، حتى يكون للشاب هامش الاختيار وحرية تحديد وجهته وأسلوب انخراطه في الشأن التونسي.. إن شبابنا بحاجة إلى هوامش ومناخات للفعل الثقافي والسياسي، وليس إلى مجرد التعبير عن هواجسه، على أهمية فضاءات التعبير هذه، وأعتقد أن رئيس اللجنة الوطنية للاستشارة الشبابية، يدرك جيدا هذا المعطى.. ++ لا شك أن لكل استشارة وطنية، اتجاهها وبوصلتها التي لا بد من تحديدها، حتى لا ينساق النقاش أو الحوار مذاهب شتّى بشكل يصبح من الصعب حصره، لكن لا ينبغي أن يؤدي ذلك أيضا، إلى "حصر" النقاش بصورة تضر بالهدف الأساسي للحوار مع الشباب، وهو إتاحة الفرصة له للتعبير عن وجهة نظره وأفكاره وأطروحاته.. إن ضبط عناوين دقيقة للحوار، معناه حصر التفكير الشبابي في زاوية محددة، لا ينبغي أن يتجاوزها، حتى وإن رغب في ذلك أو حمله الحوار إلى عوالم أخرى غير تلك التي حددت له.. فبدلا من أن نسأله عن هويتنا العربية الإسلامية الإفريقية المتوسطية، وكيفية تونستها، كان الأجدى أن نسأله عن نوع الهوية التي يريدها لبلاده.. وبدلا من أن نسأله عن "المظاهر الدخيلة عنا" في اللباس والعبادة والطقوس، كان يفترض أن نسأله عن رأيه في أشكال اللباس الموجودة، لكي نعرف بدقة اتجاهات تفكيره، ونوفر له خيارات أوسع للاختيار.. ++ هل نحن نريد أن ننصت إلى الشباب فيما نريد أن نسمع (كنخب وكحكومة)، أم فيما يريد هو أن يتكلم ويتحدث ويعبر عن رأيه ؟ هل نريده حوارا "على الجاهز" ومن داخل الأجندا المعروفة، وبالتالي هو تكرار لمواقف وأفكار قديمة، أم حوارا منتجا بأتم معنى الكلمة.. منتج لنخب جديدة، وجيل جديد، ومقاربات جديدة، وأفق سياسي وثقافي جديد؟ من السهل اعتماد حوار على الجاهز، ينتهي من حيث بدأنا، بل ينتهي من حيث الدائرة التي نفكر فيها منذ سنوات عديدة، أما الصعب حقا أن نجعل من هذه الاستشارة الشبابية، نقطة بدء جديدة لمنظومتنا الفكرية والسياسية والمعرفية ولعلاقتنا بالمجتمع وبخيارات الحكم خلال المرحلة المقبلة.. إنه تحدّ لا مشاحة فيه.. صحيح أن اللجنة الوطنية المعنية بالحوار مع الشباب واعية على الأرجح بهذه المسائل، لكن المطلوب تحويل هذا الوعي إلى واقع عملي، فثمة فرق شاسع بين "الممكن الذهني" و"الممكن الواقعي"، على رأي العلامة عبد الرحمان ابن خلدون.. ++ لقد عانى شبابنا من التهميش طوال عقود، وتعاملنا معه بمنطق "الخوف عليه"، الخوف من التسيّس ومن التطرف، فكانت النتيجة أن سقط جزء لا يستهان به في تيارات التطرف والإرهاب، فيما يعاني البعض الآخر من سلوكيات مائعة وماجنة، ويعيش قسم آخر بفكر مسطح ووعي هامشي غير مبال بما يجري من حوله، ولسان حاله يقول: "أخطا رأسي واضرب".. ليس المهم أن نفتح نقاشا مع الشباب لمجرد فتح النقاش، أو إجراء استشارة وطنية لذاتها، وهو ما لا نعتقد أن اللجنة الوطنية أو رئيسها، السيد صادق شعبان، الذي يبدو شديد الحماس لهذا الحوار، يرغب في ذلك أو يفكر فيه مجرد التفكير، بل المهم أن نجعل من هذا الحوار بوابة لمصير مختلف عن حاضرنا، مصير ينحته شبابنا، الذي سيكون صانع القرار في المستقبل.. فلنوفر له فرصة التحدث بلا شروط أو قفازات أو ضوابط، فمن داخل ورشات التفكير هذه، ستنبجس أنهار من المواقف والأفكار والمقاربات التي ستكون بلا شك عناوين لما هو آت للخضراء..