رغم الصبغة الاستراتيجية والتاريخية للمسيرات الشعبية الضخمة التي تنظم منذ أسبوعين في مصر من قبل أنصار "الشرعية" والرئيس محمد مرسي وخصومهم، سيسجل التاريخ أن مساعد وزير الخارجية الأمريكي ويليام بيرنز كان أول سياسي يؤدي زيارة رسمية الى القاهرة بعد "ثورة 30 جوان" و"الانقلاب العسكري" الذي أطاح يوم 3 جويلية بالرئيس محمد مرسي ومؤسسات الدولة التي أفرزتها الانتخابات البرلمانية والرئاسية واستفتاءات مرحلة ما بعد ثورة 25 جانفي 2011 على الدستور والنظام السياسي ل"مرحلة الانتقال الديمقراطي".. فهل تأتي زيارة مبعوث الرئيس الأمريكي إلى القاهرة بالجديد وتكرس بقاء النظام المصري في"بيت الطاعة"؟ أم تُكرّس هذه الزيارة "السابقة لأوانها" أن واشنطن هي الخاسر الأكبر من المستجدات التي تشهدها المنطقة منذ اندلاع "ثورات الربيع العربي"؟ ينبغي الإقرار أوّلا بأن مظاهرات معارضي الرئيس محمد مرسي وأنصاره تتنافس في ترديد شعارات تنتقد سياسات الإدارة الأمريكية في مصر والمنطقة: القوميون والناصريون والسلفيون (التابعون لحزب النور القريب من دول الخليج) الذين تزعموا حركة 30 جوان يتهمون واشنطن بدعم تيارات الاسلام السياسي وخاصة جماعات الاخوان المسلمين والجماعات السلفية.. والاسلاميون يتهمون مؤسسات أمنية وسياسية أمريكية بدعم الانقلاب العسكري على المؤسسات المنتخبة واعتقال الرئيس مرسي ورفاقه.. شعبية أوباما بعد خطاب جامعة القاهرة وتلتقي الدراسات الاستراتيجية حول نقطة تراجع "التعاطف الشعبي" السابق في مصر وفي الوطن العربي مع مبادرات الرئيس باراك أوباما والتي عبر عنها مرارا وخاصة في خطابه الشهير في جامعة القاهرة في جوان 2009 حول فلسطينالمحتلة والقدس والمستوطنات ثم حول دعمه للديموقراطية عربيا ولمسار إسقاط "أنظمة الفساد والاستبداد".. ويعود الهبوط الكبير لشعبية باراك أوباما والديبلوماسية الأمريكية في مصر وفي المنطقة العربية لأسباب عديدة من بينها فشل فريق أوباما في تجسيم تعهداته لمئات ملايين العرب بإيجاد حل لمعضلة الاحتلال الإسرائيلي للقدس وفلسطين من جهة، ولحكومات الفساد المالي والاستبداد السياسي-الحليفة لواشنطن وإسرائيل- من جهة ثانية.. إخفاقات فاقت الإنجازات وفي ظل المستجدات الامنية والسياسية والعسكرية التي تشهدها العديد من الدول العربية والاسلامية التي وعدتها الادارة الأمريكية بالإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والديمقراطية -من العراق وأفغانستان، إلى سوريا ومصر واليمن وليبيا وتونس- ستفتح زيارة مساعد وزير الخارجية الامريكي إلى القاهرة واعترافه بالقيادة التي أفرزها "الانقلاب العسكري" حقبة جديدة من التوترات في العلاقات العربية الأمريكية والمصرية الأمريكية.. رسميا وشعبيا.. ومن بين ما يزيد موقف الإدارة الأمريكية ضعفا فشل القيادات "الثورية" التي دعمتها في بقية بلدان الربيع العربي في تحقيق جل أهدافها.. بل إن الاخفاقات فاقت الانجازات خاصة في اليمن وليبيا وسوريا ومصر.. حيث يبدو "شباب الثورة" مهمشا سياسيا واجتماعيا وثقافيا أكثر فأكثر.. وعوض أن يبدأ مشوار بناء دول تحترم قواعد الشفافية والتعددية برزت في بعض دول الربيع العربي "مافيات" جديدة من الاحتكاريين للثروة والسلطة.. في وقت تورطت فيه جهات داخلية وأخرى إقليمية ودولية في مسار "تدمير الدولة الوطنية" والسلطات المركزية.. فكانت النتيجة مظاهر خطيرة من الفلتان الأمني والإعلامي وآلاف الاعتصامات والاضرابات "العشوائية" المدمرة للاقتصاد ولمصالح ملايين الشباب والفقراء الذين انتفضوا قبل عامين ونصف للمطالبة بحقهم في الشغل والكرامة والخروج من دائرة "المهمشين" و"المعذبين في الأرض".. اعتراف بالانقلابيين أم "طبخة أمريكية جديدة"؟ ولعل السؤال الكبير الذي جاء مبعوث الإدارة الامريكية ليقدم له إجابة واضحة في القاهرة هو: هل لا تزال واشنطن متمسكة بمسار "تغيير أنظمة الفساد والاستبداد" الذي أعلنت عنه قبل 10 أعوام وبرر به وزيرا خارجيتها في عهد بوش الإبن كولين باول وكوندوليزا رايس حربي أفغانستان 2001 والعراق 2003؟ وبصفة أدق هل لاتزال الادارة الامريكية مقتنعة بدعم "ثورات الربيع العربي" أم ستعود لدعم الأنظمة العسكرية والبوليسية التي تحكم المنطقة العربية والاسلامية منذ 60 عاما وتحظى بدعم أوروبي-أمريكي-إسرائيلي لأنها تحترم شرطي "ضمان المصالح الاقتصادية للغرب وأمن إسرائيل"؟ الاجابة عن هذا التساؤل وتفريعاته مرتبط بفحوى المقابلات والاتصالات بين ممثلي الإدارة الأمريكية - وويليام بيرنز شخصيا - ب"مختلف الأطراف السياسية في مصر" بما في ذلك القيادات التي أفرزتها حركة 30 جوان "التصحيحية" ثم الانقلاب العسكري وتلك التي كانت أفرزتها الانتخابات الرئاسية والبرلمانية العام الماضي؟ هل ستكرس زيارة ويليام بيرنز إلى القاهرة والملايين في الشوارع بين مناصر لمرسي ومعارض له اعترافا بالانقلاب العسكري أم "مناورة" تمهيدا لطبخة سياسية جديدة؟ لا أسود ولا أبيض أمريكيا، يبدو الساسة ميالين أكثر فأكثر إلى تجنب الانحياز الى طرف واحد في النزاعات والصراعات التي يعرفها الوطن العربي.. بدءا من الصراع العربي الاسرائيلي والموقف من الأنظمة العسكرية والبوليسية الحليفة للغرب.. وعلى غرار عادة ساسة واشنطن يصعب أن يتخذوا موقفا قطعيا مما يجري في مصر.. بمنطق: أبيض أو أسود.. وفي هذا السياق يصعب أن يتورط صناع القرار في إعلان موقف واضح يدين انقلاب قيادة الجيش المصري على الرئيس والبرلمان المنتخبين قبل أكثر من عام في أجواء ديموقراطية.. كما لا يمكنهم أن ينحازوا إلى القيادات الاسلامية المصرية التي تنظم منذ أسبوعين مظاهرات واعتصامات ضخمة "احتراما للشرعية".. خاصة أن كثيرا من تلك المظاهرات رفعت شعارات معادية بقوة لإسرائيل و"للعلمانيين" المصريين.. ورفعت شعارات "إسلامية" تتنافى والصبغة التعددية طائفيا في مصر.. حيث حوالي خُمُس المواطنين من بين المسيحيين الاقباط نسبة عالية من بينهم من بين المؤثرين جدا في عالمي المال والاعلام والثقافة.. المتضرر الأول في كل الحالات لكن واشنطن تبدو في كل الحالات المتضرر الأول من تناقضات موقفها مما يجري في مصر وفي المنطقة: فهي مع الديموقراطية لكنها لا تدين الانقلاب العسكري رسميا على غرار ما فعلت ساپقا بعد انقلابات شهدتها إفريقيا وأمريكا اللاتينية.. وهي تعارض "السلفية المتشددة والمواقف الاسلامية المتطرفة" المعادية لإسرائيل وتعيب على الرئيس محمد مرسي و"الاخوان المسلمين" مساعدتهم لحركة "حماس" الفلسطينية وتطبيع علاقات القاهرة مع ايران، لكنها لا يمكن أن توافق على جر مصر إلى مواجهات أمنية غير مأمونة العواقب بالنسبة لاسرائيل وحلفائها بين قيادات الجيش وأنصارالحزب الأقوى في مصر.. ومهما كانت الاخطاء القاتلة للاخوان المسلمين، فيصعب على واشنطن وتل أبيب قبول اقحام مصر في فوضى عسكرية وأمنية شبيهة بما يجري في سوريا والعراق وليبيا أو ما حصل في الجزائر في التسعينات.. فضلا عن كون ايران وحلفائها في فلسطين ولبنان وسوريا والاردن سيكونون اول المستفيدين من تحالفات جديدة قد تقوم بها فصائل اسلامية مسلحة قد تفرزها المواجهات القادمة.. بدعم مالي وسياسي من جهات خليجية ودولية متناقضة المصالح والأولويات.. أمريكا وإسرائيل ضد حكم عسكري وفي نفس الوقت الذي تسعى فيه جهات رسمية إسرائيلية وأمريكية لإبعاد الاخوان المسلمين عن السلطة نهائيا في مصر، لا يساند غالب صناع القرار في تل أبيب وواشنطن بروز نظام عسكري قوي في مصر.. "قد يهدد يوما مصالح إسرائيل وأمريكا وحلفاءهما ".. وقد يعيد تجربتي النظامين العسكريين في الستينات والسبعينات عندما شنا حروبا ضد إسرائيل.. وضد بعض الأهداف الأمريكية في المنطقة.. في ظل هذا السياق العام قد تكون أمريكا وإسرائيل الأكثر تضررا من انقلاب 4 جويلية.. بالرغم من تعبير ساسة إسرائيليين بارزين عن ترحيبهم بخطوة الإطاحة بمرسي "الذي دعم الارهابيين الفلسطيين في غزة وسيناء".. واذا لم يتوصل أبرز الفرقاء السياسيين المصريين إلى توافقات سياسية تحكمها أولويات مصر الوطنية، فستضطر واشنطن إلى "تنازلات قاتلة جديدة في مصر" شبيهة بتلك التي قامت بها في أفغانستان والعراق.. عندما اضطرت إلى الانسحاب في ظروف غير عادية.. بعد خسائر مالية وبشرية وعسكرية هائلة.. ولعل دخول واشنطن في مفاوضات في الدوحة مع حركة "طالبان" الأفغانية.. وفي مفاوضات مع إيران في بغداد حول مستقبل العراق.. خير دليل على أن "الدور الأمريكي في المنطقة" يتراجع بعد كل مواجهة ذات صبغة عسكرية وأمنية.. قد يضطر ويليام بيرنز ورفاقه إلى التنقل بين "موائد الافطار الجماعية" اليومية ومواكب صلاة التراويح الجماعية المتناقضة الأهداف السياسية.. والتي تنظم هذه الايام في ميداني التحرير ورابعة العدوية. كما قد يضطرون لمحاولة فهم ما يجري في مصر عبر الحوار مع مجموعات شباب "الثورة" الذي بات بعد الانقلاب مقسما أكثر من ذي قبل.. وينتقد "من سرقوا" ثورته في 25 جانفي 2011 وفي 30 جوان.. وبات يهدد بتمرد جديد.. "حتى لا تسرق أحلامه مجددا"..