تظل الأزمة السياسية في تونس تراوح مكانها رغم جهد المشاورات السياسية المطولة التي تقودها منظمات الحوار الوطني ومارطون المفاوضات العلنية منها والجانبية والسرية وفوق الطاولة وما تحتها وماهو معلوم وما هو غير معلوم.. في الوقت الذي كان الجميع ينتظر بوادر انفراج فعلية للخروج من المأزق..تبين أن التوافق الوطني ما يزال أمرا بعيد المنال، وغاية صعبة الإدراك..خاصة مع تواصل حالة عدم الثقة بين الفرقاء السياسيين.
وهو ما تجلى في اللقاء الصحفي الذي عقدته امس المنظمات الراعية للحوار الوطني حين اعلن حسين العباسي امين عام اتحاد الشغل صراحة ان انطلاق الحوار الوطني على قاعدة خارطة الطريق مباردة "الرباعية" (المتمثلة في استقالة الحكومة وتعويضها بحكومة كفاءات مستقلة لا تترشح للانتخابات المقبلة وتحديد عمل المجلس في مهام تأسيسية على راسها استكمال الدستور)، ما تزال متعثرة، والسبب هو قبول حركة النهضة بالمبادرة فقط دون اعلان واضح وصريح بقبولها لخارطة الطريق، حسب رايه..
واعتبر أن ذلك قد ينجر عنه حوار من اجل الحوار وقد يمطط فيه دون جدوى ولا يؤسس في النهاية الى توافقات وطنية تخرج البلاد من عنق الزجاجة.
في الحقيقة -وباتفاق أغلب المراقبين- لم تمر البلاد بأزمة سياسية منذ اغتيال الشهيد محمد البراهمي يوم 25 جويلية الفارط، او يوم اغتيال الشهيد شكري بلعيد في 6 فيفري الماضي، بل ان الأزمة بدات تنسج خيوطها منذ انطلاق نشاط المجلس التأسيسي بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 حينها طفت على السطح خطورة المحاصصة الحزبية التي أثرت سلبا على تأمين مسار انتقالي سلس، فضلا عن طغيان الخلافات السياسية التي كانت تندلع من منظور مصلحي حزبي ضيق..
إن الحل الوحيد الذي بات يطرح بقوة هو في المرور الى مرحلة انتقالية ثالثة، تؤمن حدا ادنى من الاستمرارية مع المرحلة الانتقالية الثانية رغم مساوئها وآلامها وتعمل على تضميد جراح البلاد سياسيا واقتصاديا وأمنيا..لكن قبل ذلك لا بد من الفرقاء السياسيين في الحكومة او المعارضة من الايمان بضرورة المرور الى هذه المرحلة،والاعتراف بفشل المرحلة الانتقالية الثانية.
لقد قامت عملية الانتقال الديمقراطي الى حد الآن على مرحلتين، أولى كانت ناجحة رغم المخاطر والصعوبات وحافظت على تماسك الدولة، وأرجعت ثقة الشعب في المؤسسات، وأدت إلى انتخابات نزيهة وشفافة فتحققت البعض من اهداف الثورة خاصة عن طريق هيئة الانتخابات. أما المرحلة الثانية فقد تحمل مسؤولياتها المجلس التأسيسي وفشل في ذلك.
كان يمكن للمجلس التأسيسي ان يركز على مهمته الأصلية التأسيسية، ولنجح في تأمين المرحلة الانتقالية الثانية بأخف الأضرار وفي أقصر وقت ممكن عن طريق الحفاظ على الدولة ومؤسساتها وتطوير أدائها.
فالخلل الأساسي الذي نعاني تبعاته اليوم يتمثل في انعدام التوازن بين المرحلتين في النتائج المحققة والمدة المستغرقة.
فلو تم العمل على تحقيق ذلك التوازن لتم تفادي الانسداد السياسي ولصبر المواطنون على الأزمة السياسية والاقتصادية ولمنح المجلس آليا آجالا أخرى لإتمام الدستور.
يرى بعض المحللين أن المرحلة الثانية كانت فاشلة لأن النخبة الحاكمة فرطت في مكاسب المرحلة الأولى. ولم يكن أحد ليوجه لهم اللوم على الأزمة الاقتصادية لو أنجزوا المهمة بنجاح وحسن نية، ولكنهم ضيعوا على البلاد فرصة ذهبية لبناء دولة متقدمة.
واتهم البعض الآخر النخب السياسية بالانخراط في منطق تصفية الحسابات ومحاولة السيطرة وخاضوا الحروب -وما يزالون- للسيطرة على الإعلام والقضاء وجميع مفاصل الدولة وما لم يستطيعوا بسط سيطرتهم عليه حاولوا تحطيمه بكل الطرق كما فعلوا مع هيئة الانتخابات..
الحل اذن سياسي بامتياز، وآن الأوان لمصارحة الشعب والاعتراف بفشل المرحلة الانتقالية الثانية، والدخول فورا في مفاوضات تؤدي الى حلول توافقية متعلقة بشروط وآليات بدء مرحلة انتقالية ثالثة نهائية قصيرة الأمد تؤدي مباشرة إلى حكم دائم ومؤسسات مستقرة دون المزيد من الهزات، خاصة بعد اغتيال الشهيدين شكري بلعيد، ومحمد لبراهمي..
لن يكون التوافق ممكنا الا بعد صفاء غيوم الريبة من الآخر ومد جسور الثقة بين الفرقاء السياسيين..والالتفات الى مصلحة الوطن وهموم المواطن والوعي بخطورة المرحلة على جميع المستويات، والأهم من ذلك التنازل من أجل الوطن والإسراع بإنقاذ البلاد من شبح الفتنة والافلاس..