مرت يوم 21 اكتوبر2013 خمسون سنة على رحيل الفنان العراقي ناظم الغزالي. خمسون سنة مرت على رحيل هذا الفنان ومازال حيا في قلوب عشاق الفن وعشاق الحياة عموما لأنك عندما تعشق الفن تعشق آليا الحياة. فالفن نبض الحياة والفنان ناظم الغزالي كان قلبه ينبض بالفن… كان فنانا مضمّخا بالفن. كان فنانا حد النخاع. واليوم وإذ تحيي العراق ذكرى هذا الفنان وتسرق لحظات في زحمة الأحداث الدموية التي تشهدها يوميّا للإحتفاء بذكرى هذه القامة الفنية الكبيرة فإنها ليست وحدها تملك الحق في هذا الفنان. ناظم الغزالي فنان عربي وفنان اخترق الحدود ووصل إلى العالم بفنه الأصيل وبصوته الجميل وبآدائه البليغ وبإحساسه المرهف. واليوم وإذ نحيي ذكرى هذا الفنّان العملاق فإن الذكرى تأتينا مليئة بالشجن. ومن غير صوت ناظم الغزالي المليء بالشجن بقادر على تصوير الحالات النفسية التي يمر بها العرب اليوم. كل شيء من حولنا تقريبا شجن. أرضنا العربية مخضبة بالدماء وما أحوجنا إلى صوت يبكي حال هذه الأمّة لعله بصوته يخرج هذا الكم من الهموم الكامنة فيها ولعله بصوته يداوي الجراح ولعله يشفي النفوس الحزينة من سقمها. من غير الفنان الأصيل اليوم بقادر على تطهير الجراح ومن غير الفنان الصادق نأتمنه على همومنا وعلى جروحنا وعلى قلوبنا المتعبة. يتجدد مع كل جيل مرت خمسون سنة على رحيل ناظم الغزالي لكن صوته لم يغب وصورته لم تأفل لأن الفنان الصادق يبقى بين جماهيره بفنه وبرصيده الذي تتلقاه الجماهير أجيالا بعد أجيال. وناظم الغزالي يملك السر في أنه يتجدّد مع كل جيل. ولعلك إذا سألت الجماهير العربية الشابة اليوم عن ناظم الغزالي ستقف على مفاجآت كبيرة. فناظم الغزالي الفنان الكبير الذي ظل خالدا رغم أنه لم يعش طويلا (حوالي 42 سنة) ليس خارج حسابات الأجيال الشابة بل هو في قلب ذائقتهم الفنية لأنه فنان صادق ولأن أغانيه أصيلة يمر الزمن ولا تشيخ وتمر الأعوام دون أن تعتريها التجاعيد. ولعل لنا في قصة حياة ناظم الغزالي الذي تغنى بصوته الرخيم بالمرأة وبالحب وبعذابات العشاق حكمة. عاش ناظم الغزالي في وقت كان البقاء فيه للموهوب وللمجتهد أكثر من غيره. عاصر عمالقة الطرب على غرار محمد عبد الوهاب وفريد الاطرش واسماهان وغيرهم. كان قد نشأ في اسرة عراقية فقيرة تكاد تكون معدمة ولكنه تمكن بفضل موهبته من الخروج من وضعه الإجتماعي الصعب وعلى المستوى الفني اعتبر من أبرز المجددين في الموسيقى العراقية. ففي الوقت الذي نقل فيه البيئة العراقية تصرف بشيء من الحرية وخرج عن الأسلوب التقليدي في الآداء وتمكن من نشر العديد من الأغاني خارج العراق بالتوازي مع الشعبية الكبيرة التي كان يحظى بها في بلده اشرق نجمه بالمنطقة العربية. ولعل اشهرها إلى اليوم " طالعة من بيت أوبها" و"يمّ العيون السود "و"فوق النخل" و"ميحانا ميحانا" التي كانت أدتها المطربة التونسية الشابة يسرى المحنوش في برنامج "مواهب العرب" وبلغت بها الدور النهائي. ناظم الغزالي معروف بصوته الرجالي الحاد وهو ما مكنه من الإبداع في آداء المواويل. فطريقته في آدائها مؤثرة جدا ومميزة وهي صعبة على المنافسين أو المقلدين. اليوم وإذ نستحضر ناظم الغزالي فإننا كمن يبحث عن شعاع وسط العتمة التي تحاصرنا من كل جانب. يأتينا صوت ناظم الغزالي بقراره وجوابه هادرا يتحدى الزمن ويثير الحنين إلى زمن الفن الجميل. ياتينا حاملا بعض الأمل على أجنحة الطرب . يأتينا كالبلبل مغردا على إيقاع أوجاع العراقيين والعرب. ماذا كانت ستكون الحياة في هذا الزمن الذي كشر فيه البشر عن أنيابهم وتحول أغلبهم إلى أعداء لبعضهم البعض. ماذا كانت ستكون الحياة بلا صوت يشدو وبلا أغنية جميلة في زمن يتربص فيه أبناء الجلدة الواحدة ببعضهم البعض. ماذا كانت الحياة لو أن الله لم يهب البعض من عباده موهبة الغناء. لو لم يكرمهم بصوت يرمم جدران التواصل ويهدأ النفوس الحائرة وينزل على العباد كالبلسم الشافي.