لئن تحدثت العراقية الدكتورة نظلة أحمد الجبوري عن الفكر العربي وواقع المجتمعات العربية الثائرة فكريا والخلط في التقليد والفهم للفكر الصوفي والطرق الصوفية، فإنها رفضت الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالجراح والأحداث الأليمة في العراق ومتفرعاتها. كما تحدثت عن دور المثقفين والمفكرين في المجتمعات العربية وأهميتها لإنجاح مشاريع الأنظمة الديمقراطية التي تكرس حقوق الانسان. وتجدر الإشارة إلى أن الدكتورة نظلة أحمد الجبوري مختصة في التصوف وهي عضو الهيئة الاستشارية ببيت الحكمة بالعراق مكلفة بالدراسات الفلسفية. التقينا بها في المجمع التونسي للثقافة والعلوم والفنون بيت الحكمة بمناسبة مشاركتها في ملتقى الفلسفة الإسلامية فكان الحوار التالي: * بحكم تخصصك في الفكر الصوفي أو التصوّف، كيف تفسرين هذا المفهوم في ظل انتشار بعض المظاهر السلوكية والشكلية في المجتمعات العربية والإسلامية اليوم من قبيل"الدروشة" وغيرها من الممارسات المنبوذة اجتماعيا، والتي تنتسب إلى التصوف أو الصوفية كمذاهب وأفكار؟ - التصوف لا يقتصر على السلوك فقط وإن كنا في حاجة للسلوك لنرتقي إلى المستوى المطلوب.. والتصوف فكر وعمل. عندما يقتطع العمل عن الفكر أو يغيب الفكر يتحول السلوك بعيدا عن الطرق الصوفية، يتحول إلى سلوك "دروشة" أو سلوك التعاطي لكسب التعاطف بمظهرية رثة. وهذا ليس تصوفا لأن التصوف هو في أعلى سماته لدى الفلاسفة المتصوفة كابن عربي وابن سبعين ولدى متصوفة الفلاسفة كابن سينا وقبله الفارابي وبعده ابن رشد. وهناك عدد كبير من الفلاسفة من خلط بين العقل والسلوك ومن بينهم جنيد البغدادي وما انتهى إليه الغزالي الملتزم بالقرآن والسنة فكرا وتطبيقا عمليا. وربما أيضا لدى عديد الطرق الصوفية التي نلحظ وجودها في عصرنا هذا وهي تمثل أقطاب الفكر الصوفي على غرار الطريقة الرفاعية وما تشعب منها من طرق والطرق القادرية والشاذلية وما انبثق عنها من طرق. وهذه الطرق في مجالسهم لا أعتقد أنها مجالس دروشة ولكنها مجالس ذكر وسماع صوفي تقال فيها الأدعية والأوراد وذكر الله لكي تصل نفوس المريدين إلى الله تعالى. وهي بعيدة عن متعلقات الحياة أو ما يمت لها بصلة في مصطلحات واضحة للصوفية في الرياضة والمجاهدة والخلوة والعزلة وهي مصطلحات متفق عليها في الفكر الصوفي. إذ يكفي التذكير بتجربة ابن سينا كتجربة اشراقية تتحقق من خلالها اشراقات العقل الفعّال على عقله، معرفة وإدراكا ذوقيا وكشفيا تارة، وتارة أخرى عقليا كليا للصور والمعاني وتتحقق الاتصال بالعالم العلوي والعالم الأرضي من خلال العقل الفعّال نفسه صلة للوصل. * وكيف حسب رأيك يمكن معالجة هذا الفهم الخاطئ وتقريب المفهوم ليس من العامة فحسب وإنما ممن يدعون أنهم ينتسبون إلى هذا الفكر؟ -المفكر والمثقف أو المعني بالشأن الصوفي هم هؤلاء الذين يجب أن ينقلوا التصور الصحيح عن الفكر الصوفي ويوضحوا ما يمكن أن يحصل فيه من تناقضات من قبيل "الدراويش". من خلال الملتقيات الفكرية والثقافية ومنابر الحوار الإعلامية والبرامج الحوارية وحتى من خلال العلاقة بالإنسان. لأننا كلنا نحتاج إلى البعد السلوكي والروحي لنعود إلى النبع الصافي في النفس البشرية في إسلاميتها وتعاملها في الواقع بأخلاقيات. ثم أن ما وصل إليه الفلاسفة ممن ينتسبون إلى هذه الأفكار أو من أرسوا قواعده إنما جاء بعد دراسات متعمقة وبحوث مطولة ومكابدة علمية كبيرة. ولم يكن الشكل أو المظهر الخارجي أو المميز لهم بل الفكر والعمل الذي قدموه للإنسانية والتاريخ يحفظ ذلك. * تمر البلدان والشعوب العربية في هذه المرحلة بحالة مخاض عسيرة تحت شد التجاذبات السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية، فأيّ دور للمثقفين والمفكرين في ذلك؟ - إن في إرداة الشعب العربي على التحرك والتملص من قيادة الحكم بتعلة فسادها وفشلها وامتلاك المثقفين العرب لزمام فكرهم، من الممكن أن يرسموا لنا خارطة طريق خاصة أن المثقف والمفكر هو جزء من مجتمعه وهو في البداية من نظر إلى الحدث وما يدور في المجتمع. ولكن صار عليه أن يرفع صوته ليكون إلى جانب شعبه. لأن هذا الزمن هو زمن إرادة الشعوب والمثقف يجب أن يعيد قراءة الحدث لكي يكون ضمن الحدث ولا يجعل الحدث يتخطاه فيعيب نفسه بنفسه، ومن ثمة لا يعود له وجود فيما حققته له إرادة الشعب العربي في أوطانه المختلفة من قول واضح وصريح من حرية وحقوق الإنسان التي يستحقها الانسان العربي ليأخذ حقوقه كاملة، كحق الحياة وحق الفكر والتعبير عن الرأي بحرية. وهي حقوق الوجود التي يمنحها الله له ولا يحق لأحد أن ينتزعها. * كيف تستشرفين وضع العراق ومنبع الحضارات والثقافات في ظل ما يمر به من أحداث ماسوية؟ - سيعيد العراق، بلد الحضارة والتاريخ، صوته العالي وحضوره القوي ودعمه لقضايا أمته في الديمقراطية وحقوق الإنسان والتحرر كما كان دائما مشعلا للحضارة. * حسب رأيك ما هو المشروع الذي يجب أن تراهن عليه النخب الفكرية والثقافية اليوم؟ - المشروع الذي يجب أن يتبناه المثقف هو مشروع الانسان والمواطن العربي أي مشروع المواطنة والانتماء للوكن ببعده القومي وللأمة ببعدها الوطني. إن الانسان العربي يحمل فكرا وهموما وتطلعا مستقبليا واحدا مهما اختلفت أشكال التعبير عنها. ويبقى مشروع انسان المواطنة والحرية والحقوق والواجبات. والمواطن هو حقيقة الحقائق التي يجب ألا تغيب في متاهات الخلافات والواقع الذي تمر به الأمور. * كيف وجدت تونس التي تزورينها في إطار ملتقى فكري يتزامن مع ذكرى 23 أكتوبر وما شابها من أحداث مؤلمة وحزينة ولكنها تواقة للأفضل؟ - ربما رأيت تونس في الذهن والذاكرة. وربما كان عشقا أزليا عندما قرأت عنها في الطفولة "تونس الخضراء". تطلعاتي في البداية ولكني رأيتها بيضاء نقية. بيضاء كاهلها وصافية بصفاء سواحلها وهي تحتضن البحر ويحتضنها البحر. وجوه مشرقة ضاحكة مبتسمة إرادة صلبة قوية متكاتفة وصوت عال أتمنى أن يبقى وأن يغادر كل فضاءات الصمت ليكون هو الصوت القوي المسموع.