المشهد لا يمكن أن يمر دون أن يثير في كل من تابعه مشاعر لا تخلو من غرابة وتناقض مع تلك اللحظات التي ارتبطت بلقاء الاسرى العائدين من سجون الاحتلال الإسرائيلي بعائلاتهم للمرة الأولى منذ ربع قرن أو يزيد.. بعضهم يعود وقد كسا الشيب رأسه ليجد الاب وقد فارق الحياة منذ سنوات فيما الأم عاجزة عن الحراك وقد تجاوزت الثمانين... دموع وزغاريد وعناق وتدافع لاستقبال العائدين بعد طول انتظار.. مشهد قد تعجز كل لغات العالم عن وصفه. إنه الصراع بين مشاهد بتنا نعيش على وقعها... بين فئة من الابطال الذين اختاروا الموت والانتحار دفاعا عن الحياة وانتصارا لحرية الوطن، وبين فئة أخرى تريد أن تصنف نفسها في مرتبة الابطال والفدائيين وتشرعن للموت لأجل الفناء... أكثر تلك المشاهد التي تابعها عيون الاهالي في مخيم جنين برام الله عندما جثم الأسير المحرر هزاع السعدي على الأرض يقبل قدمي أمه التي مررت يديها على شعره وسألته بكل تلقائية «من أنت يا حبيبي؟»، فرد عليها «أنا هزاع ياما».. ولكن الأم التي لم تصدّق، قالت «ما هو هزاع محبوس عند اليهود»... وربما يكون بالإمكان تخيل المشهد عندما رد عليها بقوله بتلك اللكنة الفلسطينية المميزة «يما أنا هزاع روحت من السجن»... حوار أبكى الحضور الكبير من الأجوار والأهالي الذين انتظروا لساعات طويلة وصول الاسرى، الذين لم يشأ الجلاد الا أن يزيد معاناتهم على المعابر قبل أن يسمح لهم بالعبور في نهاية المطاف الى فلسطين... لقد كان من الطبيعي أن يثير ذلك المشهد الإنساني في الأذهان، بكل ما تضمنه من قساوة الحياة والمعاناة تحت الاحتلال، مشهدا غير بعيد عنا ولكنه مناقض تماما للنضال الفلسطيني المقدس.. فللحظات فرضت صورة والدة الطفل المراهق الذي قبض عليه أول أمس قبل أن يفجر نفسه في مقبرة بورقيبة بالمنستير نفسها وتواترت التساؤلات الغبية حول مشاعر تلك الأم وما إذا كان سيكتب لها يوما أن تجتمع بطفلها وتفهم منه أسباب ودوافع تصرفه والأطراف التي دفعته الى ذلك الخيار الانتحاري البائس وهو الذي لم يبلغ بعد سن التمييز بين الحلال والحرام، ولا بين ما يمكن أن يخدم الوطن و ما يساهم في هدمه... مقارنة عبثية ما في ذلك شك، لكنها تظل قائمة، محملة بالكثير من الإشارات والرسائل بعد أن تاهت البوصلة في مجتمعاتنا ولم يعد للمنطق وللحكمة موضع... في غمرة الاحداث المتواترة والانشغال بما تحمله أخبار الإرهاب والإرهابيين التي تغتصب حياتنا اليومية وتدمر عقول المراهقين وتخدر الشباب من أبناء تونس وتدفع بهم الى الجحيم تحت راية الجهاد المقدس والفردوس الموعود وحور العين، وفي غمرة الصدمات المتكررة والانصراف الى محاولة فهم المارد الجديد الزاحف على أرضنا الطيبة، مرت بنا أحداث تحرير دفعة ثانية من الاسرى الفلسطينيين ومعانقتهم للحرية بعد عقود قضوها وراء قضبان الاحتلال الإسرائيلي دون أن تثير فينا ما كان يجب أن تثيره من متابعة لحدث انتظره الفلسطينيون ودفعت لأجله أمهات الأسرى الكثير قبل أن تقر أعينهن بالعائدين الى الحياة... من غزة الى رام الله كان الموعد هذا الأسبوع مع عودة الاسرى الذين اعتبروا أنفسهم وكأنهم بعثوا الى الحياة من جديد بعد أن شارفوا على اليأس من احتمال مغادرة السجون والمعتقلات الإسرائيلية... هزاع السعدي أسير فلسطيني اعتقل منذ 1985 في عملية فدائية وهو آخر الاحياء في مجموعة وجهت ضربة لم ينسها الاحتلال الذي سلط عليه حكما بالسجن المؤبد... توفي والده دون أن ينعم برؤية ابنه الوحيد وتوقفت والدته عن زيارته منذ سنوات بسبب المرض والتقدم في السجن. لقد ارتبط مفهوم النضال الوطني والجهاد طويلا بتحرير الأرض من دنس المحتل الغاصب، مفهوم لا يبدو أن لجيل «القاعدة» والمنظمات الإرهابية الكثيرة المنبثقة عنها، موقع يذكر في أجندتها وفي ما تطلق عليه كذبا وافتراء ب»الجهاد المقدس» ضد شعوب لم تعرف غير الإسلام دينا منذ قرون، بل منذ فجر الإسلام الأول... هزاع السعدي العائد بعد ثلاثين عاما خلف القضبان، تهمته أنه اختار المقاومة طريقا لطرد الاحتلال من بلاده، لا يمكن ان يُغيّب عن المشهد آلاف الأسرى الفلسطينيين الذين ما يزالون قابعين في السجون والمعتقلات الاسرائيلية في انتظار الفرج لمعانقة الحرية، فهل يدرك أيمن السعدي الطفل المراهق المتورط في عملية المنستير الفرق بين من دفع حياته ثمنا لتحرير الوطن وإعادة بنائه، ومن يدفع حياته ثمنا لتدمير الوطن؟!. لا نعتقد أن الذين عمدوا الى تجنيد طفل مراهق وخدروا عقله وصادروا قدرته على التفكير وحملوه حقيبة ألغام قد حدثوه يوما عن نضالات الشعوب عبر التاريخ من أجل الحرية والسيادة، أو عن نضالات رجالات تونس ضد المستعمر من أجل الكرامة ومن أجل الأرض المقدسة، ناهيك عن أن يكونوا حدثوه أو أشاروا له من قريب أو بعيد إلى نضالات الفلسطينيين المستمرة ضد أحد أبشع وأفظع أنواع الاحتلال المستمر في عصرنا اليوم... بين والدة الأسير المحرر هزاع السعدي الفلسطيني العائد من أنفاق الموت وبين الطفل المراهق أيمن السعدي حكايات جيلين: أحدهما اختار الموت دفاعا عن حقه في البقاء والوجود والحياة والامل، والثاني اختار الموت لأجل الموت والفناء دفاعا عن ثقافة لا يمكن إلا أن تكون معادية لطبيعة البشر ولخلق الانسان على الأرض ولكل ما جاءت به الأديان من قبل ...