تعيش ليبيا منذ بداية عملية القوات المنضوية تحت حكومة الوفاق الليبية على تنظيم "داعش" في ليبيا على وقع سيناريوهات "ما بعد سرت" وما "بعد بعد سرت". فالحسم في سرت قد طال في مربع مساحته بين 15 و 20 كلم مربع في قلب المدينة المنكوبة، وهو يراوح مكانه منذ مدة، بل وتسبب في عديد القتلى والجرحى، مما دفع بمبعوث الأممالمتحدة لاطلاق صيحة فزع والتعبير بأنه على المجتمع الدولي مد يد العون لهذه القوات، وهو أمر تنظر اليه كل القوى الاقليمية والدولية ب"توجس كبير". توجس عكسه الطلب الأوروبي في مجلس الأمن الدولي لتوسعة عملية "صوفيا" لمراقبة الشواطئ الليبية وإطباق تنفيذ قرار حظر السلاح على ليبيا الذي أقر سنة 2011، وهو ما يعتبر طلبا يعكس طلب حكومة الوفاق الليبية لدعم القوات المنضوية لها بالسلاح والعتاد، وهو نفس الطلب الذي يطالب به الجيش الليبي التابع لحكومة الغرب بقيادة خليفة حفتر. إلا أن الطلب الأوروبي من مجلس الأمن يعكس بالضرورة تخوفا مما يحصل في ليبيا من تغييرات دراماتيكية على جيوسياسة الصراع، بدايتها بما يحصل في سرت وما يحصل في أجدابيا من مواجهات بين قوات مجلس شورى أجدابيا والجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر، وما بدأ يدب في العاصمة الليبية طرابلس بعد مقتل مواطنين في موجهات بمدينة القرة بوللي بين مليشيات من مدينة مصراتة يقودها أحد أمراء الحرب وهو صلاح بادي وأهالي المنطقة. 3 تيارات سياسية-عسكرية توتر زاد من بلته مفتي ليبيا السابق الصادق الغرياني الذي طالب بالتوقف عن دعم المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق الوطني، متوعدا الليبيين ب"عذاب من الله"، خاصة بعد بيان المجلس الرئاسي حول أحداث أجدابيا والذي رأى فيه الغرياني أنه دعم للجيش الليبي، في وقت تقول فيه قوات "سرايا الدفاع عن بنغازي" ومجلس شورى و"غرفة ثوار أجدابيا" بأن مرجعيتهم هي دار الافتاء بقيادة الصادق الغرياني. ولعل مثل هذه التطورات تشير إلى أن تيارا جديدا بدا يظهر في ليبيا وقد يبدأ في التأثر على مسار الأحداث، وهو بروز التيار اسلامي مترسب من بقايا عملية "فجر ليبيا" التي انتهت بموجب الاتفاق السياسي. فاعلان الصادق الغرياني الخروج عن المجلس الرئاسي ومطالبته بالهجوم على قوات المنشآت النفطية الذين اعترفوا بسلطة حكومة الوفاق قد يؤشر لبداية فصل جديد من الصراع في ليبيا يتميز أساسا في 4 تيارات: -تيار تمثله حكومة الوفاق والقوات المنضوية تحته وهي أساسا من الدروع مدينة مصراتة والتي يبدو أنها تريد أن تسوّق نفسها في صورة مغايرة لما ظهرت عليه في عملية فجر ليبيا أ ي الصورة الليبرالية البعيدة عن الالتزام بالاسلام السياسي. -تيار اسلامي يمثله الصادق الغرياني وبعض ممن يتبعون الاسلام السياسي وخاصة من بقايا الجماعة الليبية المقاتلة وغيرها والمكونين لمجلس الشورى في المدن الليبية كما الحال بالنسبة لمجلس شورى أجدابيا ومجلس شورى درنة وبنغازي وغيرها من المدن، والذي قد يشترك معهم بعض مليشيات "أمراء الحرب" الموجودين في العاصمة طرابلس كمليشيات غنيوة الككلي وكارة وصلاح بادي والتي لها أجندات ارتزاقية أكثر منها وطنية. -تيار ثالث موجود وهو الجيش الليبي التابع لمجلس النواب بطبرق الذي يقوده الفريق خليفة حفتر، ويرى أنه لا يمكن لليبيا أن تقوم إلا بفعل "ما فعل المشير عبد الفتاح السيسي.. يجب اقتلاعهم (حكومة الشرق وفجر ليبيا سابقا) من جذورهم عسكريا والقضاء عليهم بالسلاح"، على حسب ما قاله النائب في البرلمان الليبي المدافع عن الجيش الليبي صلاح المرغني في نقاش طويل جمعني به. حرب أهلية؟ إذن هي حالة اصطفاف وفرز سياسي جديدة بدأت تلوح برأسها في ليبيا، قد تبدأ بافراز خارطة جيوسياسية جديدة للصراع بثلاث رؤوس. هذه الحالة قد تشكل معضلة جديدة في ليبيا خاصة مع ما هو مطروح بعد معركة سرت، فهذه المعركة تسببت بخروج الدواعش من المدينة واستقرارهم في مناطق جديدة في ليبيا، وهو ما سيلعب دورا جديدا خاصة في توزيع التحالفات بين هذا التنظيم والتنظيمات التي تقاربه في الطرح الجهادي وفق منطق "المجاورة بين المسلمين"، وهو نفس الطرح الذي تأسست من خلاله "داعش" بخروج المنتمين لأنصار الشريعة ولمجالس الشورى وتكوينهم لنواة تنظيم "داعش" في درنة قبل أن تظهر في سرت بعد تحالف أنصار الشريعة وقياديين أجانب لتنظيم "داعش" عائدون من تركيا أو هاربين من دولهم الأصلية إلى ليبيا. ولعل مثل هذا التوزيع سوف يعيد خلط الأوراق من جديد في ليبيا، وسيطيح بمسار الصخيرات السياسي الذي أخذت أرواقه تسقط منذ أن دخلت حكومة الوفاق الليبية لطرابلس على متن بارجة بحرية. إلا أن هذا الفرز قد لا يتسبب بسقوط أسس جيوسياسة الصراع التي كانت تحكم ليبيا قبل سرت، وبروز جيوسياسة جديدة قد تقود إلى حروب أهلية في المدن على شاكلة ما يحصل في أجدابيا أو بنغازي وقد ينتقل إلى حالة من الصدام الكبير في المنطقة الوسطى في ليبيا.