انتشرت مؤخرا بعض الصور على مواقع التواصل الإجتماعي لأطفال كانوا يشربون الخمر أو يدخنون سيجارة رفقة اوليائهم أو أقاربهم في تعدي صارخ على القانون وانتهاك حرمة الطفل و"تطبيع" مع التفسخ الأخلاقي فهل أننا أصبحنا نعيش أزمة قيم وتفكك للمعايير الأخلاقية التي كانت تحكم المجتمع وحالة من الفوضى الأخلاقية التي أفرزتها الثورة ؟ أم ماذا ؟ مختصون في علم الإجتماع يشخصون ل"الصباح نيوز" الحالة ويكشفون عن الأسباب ويقدمون الحلول. اعتداء على الضّمير الجمعي اعتقد المختص في علم الإجتماع المهدي مبروك أن فترات الثورات تعيش دوما تفككا للمعاييرالتي كانت تضبط المجتمع تحت طائلة التوافق أو الخوف فندخل في حالة من الفوضى المعيارية كما تشهد مؤسسات الضبط الإجتماعي (العائلة المدرسة ...) تراجعا وافتقاد لوظائفها كليّا أو جزئيا زد على ذلك ان سياقات ما بعد الثورة شهدت صعودا كبيرا للفردانيّة والحريّات الخاصّة والشخصيّة الى حد الفوضى والرغبة في تحدّي كل الضوابط التي تشير الى الدولة للتشفّي منها وترسيخ قدرة الشخص على اثبات ذاته واختيار نموذج حياته بقطع النظر عن الإكراهات الخارجيّة متمثّلة في الدّولة والعائلة والدّين. ولذلك يعمد بعض الأشخاص الى استعمال وسائل التواصل الإجتماعي لتأكيد جرأتهم وفرض خياراتهم الخاصة وهم ينسون أن ذلك يقع تحت طائلة القانون ويشكل اعتداء على الضمير الجمعي وعلى حقوق الأفراد حتى ولو كانوا أبنائهم. أولياء يهددون سلامة أبنائهم أما الباحث في علم الاجتماع طارق الحاج محمّد فقد اعتبر أنه بعد أن كانت الأسرة والمنزل يكوّنان أكثر الفضاءات والأماكن حماية للطفل أصبحت حسب الأرقام والمعطيات الجديدة أكثر الأماكن خطورة على الأطفال وأصبح فيها الأولياء يمثّلون الخطر الأوّل الّذي يهدّد السّلامة النفسيّة والجسديّة للأطفال. فالطّفل حسب الحاج محمد مازال موضوعا وضحيّة للعنف بمختلف أشكاله فهو مستهدف بطريقة مزدوجة : أولا لأنّه طفل لا يجد الحماية التربويّة ولا يقدر في الوقت نفسه على حماية نفسه وثانيا لأنّه يعيش في مجتمع تسلّطي يبرّر للعنف ويشرّعه. عنف مجاله جميع مؤسّسات التنشئة الاجتماعية كالوسط والمحيط العائلي ودور الحضانة ورياض الأطفال ومراكز الإيواء حيث يعدّ العنف المسلّط على الطّفل مألوفا وعاديّا وجائزا في حين أنه من المفروض أن يكون الأمر عكس ذلك حيث يفترض أن يجد الطفل الرعاية المادية والمعنوية فيشعر فيها بالأمن لتنمية ذاته وقدراته...عنف يتراوح بين العنف المادي والتحرش الجنسي والعنف اللفظي الذي لا يقل خطورة عن باقي الأنواع ويأخذ شكلا لا يقل خطورة عن بقية أنواع العنف ويجد مكانا له في إستعمالات اللغة اليومية التي تستحضر كل قاموس الشتيمة والتشهير والتقزيم والاهانة،تصب على كاهل الطفل دون شفقة أو رحمة وتستمد جذورها ومشروعيتها من ثقافة مجتمعية تعتبرها عنفا مشروعا ومبرّرا في حين يفترض أن يكون مجرما ومدعاة للعقاب ويأتيها شخص من المفترض أن يعلم الأطفال ثقافة الحياة والجمال ويزودهم بآليات الاندماج الاجتماعي. مضيفا أن فترة ما بعد الثورات والمراحل الانتقالية تمثّل عادة بيئة خصبة لظهور الاضطرابات السلوكية والنفسية وكأنها عبارة عن أعراض جانبية تخلفها كل ثورة وهذا أمر مفهوم من وجهة نظر علميّة لسببين رئيسيين على الأقل: أولا أن كل ثورة اجتماعية لم تسبقها أو تواكبها ثورة ثقافية تتحول من فرصة للتحرّر الاجتماعي إلى فرصة لانفلات الغرائز في أكثر جوانبها بدائية وعدوانية، وثانيا أن الثورات تهدم عادة البنى والمؤسسات الاجتماعية والثقافية التي كانت سائدة دون أن تعوضها بسرعة ببنى أخرى توفّر الإجابات الّلازمة للإنسان. فمثلما رأينا التونسي في أبهى تجلياته رأيناه أيضا في أكثر صوره ضعفا وقبحا، فقد لاحت لنا بقوة ملامح التونسي المستنفر والمضطرب والقلق الذي يرتفع عنده منسوب العنف والعدوانية مما أعطانا مشهدا للانفلات الاجتماعي منقطع النظير، انطلاقا من الفضاء العام وصولا إلى الحياة العائلية. وبالتالي تتميز فترات التحول والانتقال في السياقات الثورية إلى نوع من المعاناة والاضطرابات السلوكية والنفسية وهذا ما يفسر ارتفاع منسوب العنف والعدوانية لدى التونسي وارتفاع نسب زيارة عيادات الطب النفسي وطغيان الانفلات على المشهد الاجتماعي انطلاقا من الفضاء العام وصولا إلى الحياة العائلية عدوانية تتراوح بين الاعتداءات الجسدية والمادية المختلفة إلى أن تصل إلى أكثر أشكال العنف بشاعة من قتل وتمثيل بالجثث... ثقافة الموت والتخريب والتنكيل تتسع يوما بعد يوم وتغذيها مشاهد الموت والتنكيل الوحشية التي تعج بها المواقع الاجتماعية ونشرات الأخبار. تفريغ شحنة الكبت والقهر المزمن واعتبر طارق الحاج محمد أن سلوك التونسي اليوم يغلب عليه الطابع الانفعالي والعدواني، وفيه الكثير من الاندفاع والاستعراض والتكلف والرغبة في تفريغ شحنة كبيرة من الكبت والقهر المزمن ورغبة جماعية لإثبات الذات بموجب وبدون موجب. وقال انه لا يمكن الجزم بأن هذه الظاهرة قد تفاقمت بعد الثورة،لكن ما يمكن التأكيد عليه فقط أنها أخذت أبعادا جديدة منسجمة مع هذا السياق الاجتماعي والثقافي المستجد والمنفلت والعنيف حيث تحول العنف من الفضاء العام الى الفضاء الخاص حيث بدا بينا إفلاس الأسرة وعدم قدرتها على مجاراة نسق الإحداث والقيام بأدوارها التقليدية . وأضاف أن تفشي هذه الظاهرة تعكس أزمة مجتمع وواقع مأزوم لأناس ليسوا جديرين بأمانة الأبوة والأمومة.كما تعكس أزمة دولة عاجزة عن تحمل مسؤولياتها في حماية مواطنيها وإنتاج مقاربة شاملة يتضافر فيها البعد الوقائي والعلاجي والقانوني والجزائي. كيف الانقاذ ؟ أمام هذه الظاهرة التي عكست مثلما أشار محدثنا الى واقع متأزم لأشخاص ليسوا جديرين بتحمل مسؤوليتهم كآباء كما عكست أيضا أزمة دولة أصبحت عاجزة بدورها عن تحمل مسؤولياتها فما هي الطرق التي تمكننا من حماية الطفل الضحية؟ يقول طارق الحاج محمّد أننا عادة ما نتناسى أن تعرّض الطفل لهذه الضغوط والمعاملات السيئة منذ سن مبكرة يؤدي إلى حالة من "التطبيع"مع الجريمة والبذاءة والتجاوز والتسلط، فتغدو مع الوقت عادية ومألوفة وبالتالي فلا نستغرب أن تنتج مؤسساتنا التربوية وعائلاتنا الجريمة والإرهاب ولذلك أصبح من الضروري التعامل معها بأكثر جرأة وأكثر رغبة في النجاعة والفاعلية من أجل التشهير بها وإنصاف ضحاياها. اذ لا يخلو أي مجتمع من الجرائم ولكن توجد فروق في تعاطي هذه المجتمعات مع مسألة الجريمة. فالمجتمعات المتحضّرة تحاول مواجهتها والحد منها وتطويق آثارها النفسية والاجتماعية،على خلاف بعض المجتمعات الأخرى التي تنكر وجودها أو تصمت عنها أو حتى تبرر لها وهي بالتالي تمارس نوعا من التواطؤ والتقية بشكل يزيد في تعميق هذه الظواهر ويحد من إنصاف ضحاياها. ففي مجتمع تغلب عليه قيم الفحولة الزائفة والتسلط، إما أن تصمت الضحية أو تجبر على الصمت خوفا من العقاب أو الابتزاز ويرى محدثنا انه يجب أن تصبح هذه الظواهر قضية دولة ومجتمع ورأي عام. فالدولة محمول عليها قانونا وأخلاقا حماية مواطنيها وخاصة الفئات الهشّة والضعيفة منهم كالأطفال والنساء والشيوخ. وقد آن الأوان للتشديد في العقوبات بحيث تكون بحجم الجريمة وبشاعتها ردعا للمعتدين وحفاظا على الأمن النفسي والاجتماعي. كما يجب استثناء هؤلاء الآباء المجرمين من ظروف التخفيف والسراح الشرطي. وبالمقابل يجب تطوير آليات المرافقة والإحاطة النفسية والاجتماعية لضحايا هذه الاعتداءات لجبر ما أمكن جبره من أضرار. من جهته ورغم أن مندوب حماية الطفولة مهيار حمادي أكد أن استغلال وانتهاك حرمة الطفل وشخصه وتعريض سلامته البدنية والجسدية والذهنية للخطر تعرض الأولياء لتتبعات جزائية وأحكام تصدر في هذا الشأن والتّعهد بالطفل. الا أن ظاهرة انتهاك حرمة الطفلة لا تزال متواصلة. وكان كشف أيضا أن أكثر من 60 بالمائة من التهديدات المتربصة بالأطفال متأتية من العائلة ومن الأولياء بصفة خاصة وهو ما يجعل وضعيات الأطفال في خطر أمام قلة وعي بعض الآباء وانعدام المسؤولية المناطة بعهدتهم.