بدأت ليبيا تشهد منذ أكثر من أسبوعين تحولات جديدة على صعيد جيوسياسة الصراع، في وقت عرف فيه الملف الليبي تحركات ديبلوماسية مكوكية من قبل بلدان "الطوق الليبي" لمحاولة إعادة تحريك الحوار السياسي بين الفرقاء الليبيين. هذه التحولات الميدانية الجديدة قد تؤثر على مسار المحادثات المزمع عقدها بعد "اعلان تونس الثلاثي لحل الأزمة الليبية"، والذي أعلن رسميا عن مبادرة ثلاثية بين تونس والجزائر ومصر لتحريك الحوار السياسي بين مختلف القوى والتيارات الفاعلة في الشأن الليبي والتي بدأت في القاهرة في اجتماع غير مباشر انتهى بوضع اطار زمني لحل الأزمة ودون أن يحدد اطر تغيير الإعلان الدستوري والمصادقة عليه او كيفية تغيير تمثيلية الأقاليم الليبية في المجلس الرئاسي أو توافق على تغيير المادة الثامنة من الاتفاق السياسي الذي امضي في الصخيرات ولم يجد طريقه للتنفيذ، بسبب تعنت مختلف الفرقاء الليبيين على من سيقود الجيش الليبي والقوات الأمنية الموحدة في الفترة الانتقالية القادمة. اشتعال الهلال النفطي.. التحول الخطير الأول الذي بدأ يغيير خارطة الصراع عن التوازنات التي حصلت بعد سيطرة قوات "البنيان المرصوص" المحسوبة على مدينة مصراتة وعلى المجلس الرئاسي الليبي هو سيطرة سرايا الدفاع عن بنغازي المحسوبة على التيار الإسلامي المتشدد والتي تأتمر بأوامر الصادق الغرياني وكذلك قوات الجضران التي تم طردها من الموانئ النفطية من قبل القوات التابعة للسلطة في الشرق بقيادة خليفة حفتر، على مينائي السدرة وراس لانوف النفطيين (تبلغ الطاقة الاستيعابية الإجمالية لهما حوالي 600 ألف برميل نفط يوميا). وتقوم هذه القوات بالهجوم انطلاقا من منطقة الجفرة التي تعتبر جيوسياسيا قلب ليبيا موانئ تصدير النفط بالهلال النفطي الليبي. الهجوم بدأ بعد هجوم سرايا بنغازي على مدينة النوفلية غرب الهلال النفطي والذي تصدت له قوات شرق ليبيا بضربات جوية وتحركات عسكرية، وسرعان ما تحول تركيز الهجوم على مينائي السدرة وراس لانوف بسبب ضعف دفاعات قوات الشرق هناك، مما تسبب في السيطرة عليهما من قبل هذا الفصيل المتطرف. في نفس الوقت أعلنت قوات البنيان المرصوص التابعة لمصراتة والمحسوبة على حكومة الوفاق النفير العام في المنطقة الوسطى والشرقية وتعلن التعبئة العامة لقواتها، وأشارت أن هدفها هو "تحرير بنغازي"، وهو ما يخفي تحالفا بين سرايا بنغازي وقوات البنيان المرصوص والمجلس العسكري لمصراتة، والذي عبر في كثير من المناسبات عن أنه مستعد للحرب ضد قوات الشرق إذا تمادت أكثر في هجماتها على مناطق محسوبة على سلطات الغرب والتي تعتبر كتائب مصراتة عمودها الفقري العسكري. للتذكير فإن قوات الشرق الليبي قامت منذ اعلان تحرير سرت من تنظيم "داعش" بعديد الغارات الجوية على مناطق متحالفة مع هذه المدينة مثل قصف قاعدة الجفرة والتي كانت سببا في قطع يد المتحدث باسم مجلس مصراتة العسكري العقيد إبراهيم بيت المال. كرة من اللهب في طرابلس من جهتها تعيش العاصمة الليبية طرابلس منذ أكثر من اسبوع على وقع اشتباكات بين مليشيات تابعة لحكومة الانقاذ ومليشيات تابعة لحكومة الوفاق (غنيوة وقوة الردع وصلاح البركي وقوات الأمن الرئاسي) في انتظار دخول أطراف اخرى قد تعلن عن نفسها ومتحالفة مع قوات الشرق الليبي حفتر وخاصة جيش القبائل وكتائب الزنتان على خط المواجهة في العاصمة. هذه المواجهات كانت شديدة خاصة في حي بوسليم الشعبي، وبدأت منذ بدايات التحضير للمبادرة الثلاثية لحل الأزمة الليبية. بدأت هذه الاشتباكات من خلال اعلان حكومة الإنقاذ غير المعترف بها دوليا عن انها ستستعيد المقرات الحكومية من حكومة الوفاق، وهو ما تسبب في صدامات دامية أرادت من خلالها السيطرة على مقرات أمنية جديدة تابعة لميليشيات محسوبة على حكومة الوفاق المعترف بها دوليا. وتعمل حكومة الإنقاذ التي يرأسها خليفة غويل على أساس تحالف سياسي بين المؤتمر الوطني الليبي المنتهي والذي يضم غاضبين من اتفاق الصخيرات وكذلك إسلاميين متشددين يشيرون إلى أن مرجعيتهم هي دار الإفتاء الليبية والتي يتزعمها الصادق الغرياني وثلة من الاسلاميين الاخرين المحسوبين على الجماعة الليبية المقاتلة مثل كتيبة صلاح المرغني والمجموعات المسلّحة التابعة لقائد "لواء الصمود" صلاح بادي. في حين يمثل حكومة الوفاق الليبية مليشيات مثل "قوّة الرّدع المركزي والتدخل المشتركة" التي يقودها عبد الغني الككلي "غنيوة" المدعومة من قبل "كتيبة ثوار طرابلس" بقيادة هيثم التاجوري، و"قوّة الردع" التي يقودها عبد الرؤوف كارة، وكتيبة "النواصي"، وكتيبة "فرسان جنزور". وتدور هذه الاشتباكات بين هذه المليشيات في وقت تعمل على السيطرة على العاصمة طرابلس ومنافذها، وهو ما قد يكون له وقع كبير اما على طاولة الحوار المزمع عقدها، أو كذلك على إعادة صياغة التحالفات في الجهة الغربية من ليبيا. مصراتة.. واللعب على كل الحبال كما تأتي هذه المواجهات في وقت تقف فيه مدينة مصراتة على طرفي النقيض، فهي تدعم حكومة الوفاق من جهة، وترى أن تحالفها مع الإسلاميين المتشددين مثل سرايا بنغازي في المنطقة الوسطى ومنطقة الهلال النفطي قد يعزز موقفها خاصة وأنها خرجت من معركة تحرير سرت من تنظيم "داعش" واهنة، وهو الظرف الذي تريد قوات شرق ليبيا بقيادة حفتر اغتنامه للسيطرة على كل المنطقة الوسطى تشمل سرت وحتى حدود مدينة مصراتة، من جهة وتعزيز قواته في غرب ليبيا قبل الدخول في معركة حاسمة للسيطرة على العاصمة طرابلس، وهذا ما ترفضه مصراتة وكذلك الكتائب المحسوبة على دار الإفتاء والإسلاميين المتشددين. وفي المجمل فإن التحولات الأخيرة في ليبيا بدأت تساهم في تغير تخوم الصراع في ليبيا، خاصة وأن مختلف الفاعلين العسكريين الميدانيين بدأوا يغييرون تكتيكاتهم العسكرية من الدفاع نحو الهجوم، وخاصة الهجمات المباغتة. ولعل هذه التحولات الجديدة قد تتسبب حتى في إعادة اندماج الحركات الإرهابية ضمن التحالفات العسكرية الجديدة التي أخذت تظهر، وخاصة من التنظيمات الإرهابية. التحولات والفوضى الجديدة ويبدو أن هذه التحولات العسكرية والسياسية قد تحيلنا للاستنتاجات التالية: أولا/ الاطراف الليبية تسعى لربح الميدان والارض قبل خوض الحرب السياسية على طاولة المفاوضات فيما يخص المبادرة التونسية الجزائرية المصرية والتي تسعى من خلالها هذه الدول تعديل اتفاق الصخيرات وفق صيغ وفاقية بين الاطراف الليبية في3 نقاط أبرزها تعديل المادة الثامنة والتمثيلية في المجلس الرئاسي ومواعيد الانتخابات والمصادقة على الاعلان الدستوري وتغييره ومن ثم موعد المصادقة على الدستور الجديد وهي معركة اخرى. ثانيا/يبدو ان التيارات الجهادية المحسوبة على القاعدة تمكنت من عقد تحالفات مع مليشيات ليبية قريبة منها فكريا بمنطق المجاورة بينها. ثالثا/ حالة اللاتفاهم التي ابداها خليفة حفتر فيما يخص المبادرة الجديدة، ومنطق النرجسية التي يتعاطى من خلالها مع الميدان الحربي والسياسي فيما يخص المبادرة الثلاثية وهي التي باتت تحرك المعطيات الجيوسياسية في ليبيا. رابعا/الانخراط اللامعقول لحكومة الانقاذ المحسوبة على المؤتمر الوطني المنحل في هذا الصراع. خامسا/المعطيات الجيوسياسية الجديدة للصراع في ليبيا يساهم في نوع جديد من الفوضى في هذا البلد، وهو أخطر واشمل ويحمل في طياته اخطار اكبر لبلدان الجوار خاصة لتونس والجزائر. سادسا/انخراط التنظيمات الارهابية من جديد في الصراع من خلال منطق المجاورة مع مليشيات تابعة لاذرع سياسية موجودة في المنطقة الغربية قد يسمح لها بإعادة تشكل لأجنداته الارهابية التي يمكن ان تتسبب في هجمات ارهابية في تونس والجزائر. سابعا/اكبر تلك الجماعات التي تتعامل وفق هذا المنطق المرن هي جماعة المرابطون التي يقودها مختار بلمختار والمبايعة لتنظيم القاعدة في المغرب وباتت تتمركز في مناطق متقدمة في الجفرة وفي الجنوب الغربي الليبي . ثامنا/انضمام دواعش من فلول الهاربين من سرت للقاعدة، قد يزيد من حدة التكتيكات العسكرية بالنسبة لحلفائهم من الاسلاميين (سرايا بنغازي انصار الشريعة والقوات المنضوية للغرياني ومن امامهم حكومة الانقاذ). تاسعا/دخول مصراتة على خط هذا التحالف يأتي بسبب اقتراب قوات حفتر من اجتياز خطوط الصراع التي رسمت عشية تطهير سرت من الدواعش.. عاشرا/فوضى جديدة في ليبيا عنوانها "عدو عدوي هو صديقي" وهذا المنطق قد لا يساعد على ايجاد حلمن خلال المبادرة الثلاثية لدول الطوق الليبي .