تطورت أمس الأحداث في تطاوين بشكل دراماتيكي وحصل المكروه الذي كنا لا نتمناه منذ انطلاق الحركات الاحتجاجية بالجهة بعد وفاة الشاب أنور السكرافي في المواجهات بين المحتجين والأمن بالكامور، وما تزامن معه من تصعيد داخل مدينة تطاوين وعمليات حرق واعتداءات على بعض المقرات السيادية والمؤسسات العامة. انزلاق خطير ما فتئت اغلب الأطراف تحذر من تداعياته لما يمكن أن يقود البلاد إلى سيناريوهات مجهولة العواقب في ظل دفع بعض الجهات نحو الفوضى خدمة لمصالحها وأجنداتها، لاسيما ان التطورات الأخيرة التي شهدتها تطاوين تأتي بعد قبول اغلب المعتصمين لعرض الحكومة ومغادرتهم مقر اعتصام الكامور، وهو ما يعني أن بعض الأطراف لا تهمها التنمية ولا التشغيل ولا المصلحة الوطنية بقدر ما يعنيها بث الفتنة بكل السبل وتعفين الأجواء محاولة منها للركوب على الأحداث. ما كشفه وزير التكوين المهني والتشغيل والمكلف بملف ولاية تطاوين عماد الحمامي أمس من حقائق يؤكد خروج التحركات الاحتجاجية عن طابعها السلمي باعتبار أن الشعارات التي تم رفعها على مقربة من محطة ضخ البترول «الفانا» تدعو إلى الانفصال والتأميم والحصول على نسبة 20 بالمائة من البترول من أطراف وراءها أحزاب مفلسة ومرشحون للرئاسة وأحد الذين خسر صفقة بترول وفق قول الحمامي، وهي معطيات لابد أن يعلمها الرأي العام لفضح المتلاعبين بمصلحة الوطن والذين يدفعون بالبلاد نحو المجهول. كلنا مع المطالب المشروعة لأهالي تطاوين ولا أحد يعارض تحركاتهم السلمية من أجل التنمية والتشغيل باعتبار حق الجهة في التمييز الايجابي والعناية بعد سنوات التهميش والتفقير، لكننا بالتأكيد ضد الانحراف بالتحركات لما يمس من أهالي تطاوين ويهدد استقرار البلاد لاسيما بعد أن أكد والي الجهة محمد علي البرهومي أمس وجود أطراف دون تحديدها تسعى إلى الركوب على المطالب المشروعة وتدفع نحو الفوضى. وفي وقت كان على مختلف الحساسيات التفكير في مصلحة الوطن والدعوة إلى التهدئة في ظل حالة الاحتقان والتوتر التي تعيشها تطاوين والمخاطر التي تتهدد البلاد وتغليب منطق الحوار على كل الحسابات «انقضت» بعض الأحزاب غير المسؤولة على التطورات الأخيرة لتنخرط في التحريض وكأنها كانت تتصيد مثل هذه الفرصة لمحاولة تأزيم الأوضاع لاستثمارها والمتاجرة بها. فما معنى أن يسارع حراك «تونس الإرادة» بدعوة مناضليه أمس إلى التظاهر بشارع بورقيبة ومختلف مدن الجمهورية لما اعتبره «دعما لنضالات أهالي تطاوين السلمية ورفضا للحل الأمني ولمحاولات فض التحركات الاحتجاجية السلمية بالقوة»، في وقت كان يستوجب الشعور بالمسؤولية والدفع نحو التهدئة لا مزيد تأجيج الأوضاع في هذا الظرف الدقيق الذي تمر به البلاد؟ ولعل ما يثير الاستغراب انه بمجرد ورود خبر وفاة الشاب أنور السكرافي بالكامور انخرطت بعض الأطراف في «موجة» تحريض فايسبوكية بشكل مفضوح تدفع نحو «الهاوية» والعواقب المجهولة من خلال تدوينات من قبيل «انها فرصتكم لإسقاط حكومة العار والاستعمار».. «الرخ لا وخليها تولي كيف سوريا وعلينا وعلى الأعداء».. «نريدها ثورة تأتي على الأخضر واليابس».. «هذه ثورة السكرافي فلا تضيعوها».. «صدورنا العارية تتحدى الجيش والكرتوش الحي».. ويبدو أن ما حدث أمس في الكامور ما كان يحدث لو تحركت كل الأطراف منذ بداية أزمة تطاوين لأنه لو تحملت مسؤوليتها كاملة لأمكن الخروج بلا أضرار ولا تداعيات، وطبعا أتحدث هنا خاصة عن الحكومة والائتلاف الحكومي واتحاد الشغل والمعارضة المسؤولة وليس معارضة «الاستثمار» والمزايدات و»اقتناص» الفرص. الواقع إن الحكومة التي تعاملت في البداية مع ملف «الكامور» ب»رخاوة» وتردد غريب كان عليها منذ البداية الدخول في حوار جدي مع أهالي تطاوين تتخذ خلاله قرارات تتماشى مع طموحات الجهة دون اتخاذ قرارات ب»التقسيط» لان تحسين «عروض» الحكومة مع كل جلسة تفاوض جديدة مثل ضربة لمصداقيتها وكأنه بإمكانها اتخاذ قرارات أفضل لكنها تتحرك تحت «الضغط» فقط، وهو ما يعني انه يتحتم عليها اليوم مواصلة حوارها مع أهالي الجهة بجدية مسؤولة والإسراع بتفعيل القرارات والإجراءات لان كل تردد من الحكومة في هذا الوقت بالذات قد يفهم منه اعتماد الحكومة على الحل الأمني. وفي مثل هذه الظروف الاستثنائية لابد أن تتحرك أحزاب حكومة الوحدة الوطنية للقيام بدورها التوعوي والتأطيري في الجهة وخاصة حزبي النهضة ونداء تونس لان تجاهل الحزبين الكبيرين في الحكومة لدورهما في ولاية تطاوين وغيرها من بقية الولايات يمثل تخليا عن مسؤوليتهما مما أدى إلى إضعاف حكومة الوحدة التي بدت بلا وحدة ولا مساندة ولا «حزام» سياسي. اتحاد الشغل الذي حذر أمس من التصعيد في المنطقة النفطية بكلّ من تطاوين وقبلّي ودعا المعتصمين إلى عدم الانسياق وراء الدعوات إلى التصادم مع الجيش وتعطيل الإنتاج، محملا بعض الأطراف التي تسعى إلى توظيف التحرّكات الاجتماعية مسؤولياتهم، مطالب هو الأخر بالنزول بكل ثقله في هذه المرحلة المفصلية التي تمر بها البلاد في ظل محاولات الدفع بها نحو المجهول. أما أحزاب المعارضة المسؤولة فانه عليها أن تضع مصلحة البلاد قبل الحسابات والأجندات بعيدا عن الركوب الأحداث ومحاولة استثمار الأزمات، وهنا لابد من فضح كل الأطراف التي تسعى إلى الفتن ونشر الفوضى وتدعو إلى التصادم مع الجيش وإنهاكه بما يسهل لها تحقيق أهدافها. وإذا كانت الحكومة اليوم ملزمة بمواصلة الحوار مع الأهالي والتحرك ميدانيّا لإيجاد الحلول الفعلية للخروج من الأزمة فانه على مختلف الأطراف النأي بمصلحة تونس عن كل التجاذبات والأجندات وعلى العقلاء التحرك في مختلف الاتجاهات من أجل التهدئة لأنه لا استقرار مع تأجج الأوضاع بالجهات ولا تنمية ولا تشغيل في ظل الاحتقان والأجواء المشحونة. محمد صالح الربعاوي جريدة الصباح بتاريخ 23 ماي 2017