لا يخفى على أحد حجم المآسي التي خلّفتها محاولات الهجرة غير الشرعية أو ما اصطلح على تسميتها بالهجرة السريّة، فالعديد من العائلات التاعت من هذه الظاهرة إمّا بسبب الموت عرض البحر أو انقطاع الأخبار أو السجن. فالآلاف من التونسيين المهاجرين غير الشرعيين ممن تمّ إنقاذهم يعانون الأمرين وفق العديد من التقارير الإخبارية الإعلامية وأيضا تقارير ومتابعات مكونات المجتمع المدني العاملة في المجال، فقلّة قليلة منهم حالفهم الحظّ وواجهوا مصيرهم وتمكنوا من الحصول على وثائق إقامة رسمية، لتبقى عائلات أخرى تبحث عن خيط أمل وعن أية معلومة تُخبرهم عن أوضاع فلذات الأكباد إن كانوا على قيد الحياة أم لا. هذه الظاهرة قديمة وأصبحت أكثر انتشارا بعد الثورة حيث عاش التونسيون على وقع صدامات متتالية بسبب الأخبار التي تكاد تكون يومية حول غرق مراكب الموت التي تقلّ وأقلت العشرات وأيضا المئات من المهاجرين غير الشرعيين. رغم كلّ هذا ورغم المآسي التي خلفتها الهجرة السريّة إلاّ أن دراسة ميدانية أعدّها المرصد الوطني للشباب موفى السنة المنقضية كشفت أنّ 2% من الأولياء يُشجّعون أبناءهم على الهجرة غير القانونية. وقد أجريت هذه الدراسة على عيّنة تتكون من 1202 شاب مستجوب (من فئة 18-30 سنة) موزعين بين 63 % ذكور و37 % إناث يُضاف إليهم الأولياء في كلّ حالة (نسبة إجابة لفئة الأولياء قُدّرت ب97%)، وتمّ سحب هذه العينة على مختلف ولايات الجمهورية وفق قاعدة «الكوتا» وبالاعتماد على بيانات المسح السكاني لسنة 2014 للمعهد الوطني للإحصاء. وتمحورت الدراسة الميدانية حول العديد من المجالات من بينها مجال الهجرة غير الشرعية، وتُشير بيانات المسح أنّ 93.5% من الشباب المستجوب لم يهاجروا من قبل. وتُمثّل نسبة الذكور الذين هاجروا من قبل أكثر من نسبة الإناث في الوسطين البلدي وغير البلدي مع إقرارهم بارتفاع نسق الهجرة في السنوات الأخيرة خصوصا بعد الثورة، إذ تبيّن انّ حوالي 19.6 % من الشباب قد هاجروا سنة 2012 و17.9 % سنة 2014 ويرجعون ذلك إلى الظروف الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي عاشتها البلاد في تلك الفترة. ويعتبر 36 % من الشباب أنّ أهمّ الأسباب التي دفعتهم لمغادرة البلاد هي بالأساس مهنية و32 % عائلية. في حين أنّ نسبة ضئيلة منهم سافرت من أجل الدراسة، وهو ما قد يُرجع إلى استفحال ظاهرة البطالة لدى الشباب. إلا أنّ هذه الأسباب تختلف حسب النوع الاجتماعي، فقد كان السبب الأول لمغادرة 42 % من الذكور هو البحث عن عمل، في حين كانت مغادرة 50 % من الإناث في إطار ضرورة التنقّل العائلي. وبالنظر لمتغيّر الوسط تبيّن أنّ 54.5% من الشباب في الوسط غير البلدي هاجروا من أجل الحصول على عمل لائق، في حين كان سبب الهجرة بالنسبة 33.3 % من الشباب في الوسط البلدي بالأساس عائلي. وفي التساؤل عن نسب الرضا على الهجرة عبّر 75 % من الشباب بصفة عامة عن رضاهم، إلاّ أنّ جزءا هامّا من أصيلي الوسط غير البلدي والبالغ %27.3 هم نادمون على هذه التجربة، وقد ذكر هؤلاء الشباب أنّ العائلة كانت السبب الرئيسي لعودتهم. رقم ومعطى ● «ينخرط الأولياء في قبول مبدإ هجرة أبنائهم بطريقة قانونية بنسبة 49 % دعما لمصلحة أبنائهم، والملفت للانتباه بروز نسبة 2 % من الأولياء يشجعون أبناءهم على الهجرة غير القانونية» ● «15 % من العيّنة المستجوبة تقرّ برغبتها في الهجرة غير القانونية ويرجع حوالي 42 % أسباب ذلك للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للبلاد و36.2 % لانعدام فرص العمل» مهدي المبروك ل«الصباح الأسبوعي»: الهجرة غير الشرعية تحولت إلى مشروع عائلي للمقامرة بأرواح الأبناء أفاد الأستاذ الجامعي مهدي المبروك في تصريح ل»الصباح الأسبوعي «أنّ «أكثر من نصف العائلات التونسية تقريبا منخرطة ومتبنية لمشروع الهجرة السريّة، وقد ضمّنت ذلك بكتاب أصدرته تحت عنوان «شراع وملح» سنة 2011. وأوضح المبروك أنّ «بناء هذا المشروع العائلي قائم على ثلاث مسائل وهي تداول المعلومة حول موضوع الحرقة، وأيضا على الدعم النفسي والتشجيع على الهجرة السريّة وأخيرا عبر التمويل، وقد يكون المقصود من نسبة 2% التي أصدرها المرصد الوطني للشباب من انخراط الأسر هو التمويل فحسب، في حين أنّه في كتابي تناولت كلّ ما يهمّ دعم المشروع برمّته». ويرُجع مهدي المبروك تفشي هذه الظاهرة إلى أنّ «رهان العائلة على التعليم بأنّه سيكون مصعدا لهم للارتقاء بمستوى معيشتهم وظروفهم الاقتصادية، تقريبا قد انهار ولم يعُد قائما». وأضاف «لذلك يقع التعويل على الهجرة لإنقاذ العائلة والشباب وبالتالي لم يعُد مشروعا فرديا وإنّما أصبح مشروعا عائليّا يستثمرون فيه ويُقامرون من خلاله بأرواح أبنائهم». وأوضح المبروك أنّ «الدولة هنا تتحمّل المسؤولية في هذا الوضع لأنّها فشلت في طرح إصلاحات من شأنها أن تمنح للشباب مشروعا حياتيا وتنمويا بسبب إخفاق السياسات العمومية» . وفي هذا السياق أكّدت نتائج الدراسة الميدانية أنّ الأولياء ينخرطون في قبول مبدإ هجرة أبنائهم بطريقة قانونية بنسبة 49 % دعما لمصلحتهم، لكن الملفت للانتباه بروز 2 % من الأولياء يُشجّعون أبناءهم على الهجرة غير القانونية علما ان عدد الاسر في 2014 حسب مسح المعهد الوطني للإحصاء قد بلغ مليونين و713 ألف أسرة مما يعني أن أكثر من 55 ألف أسرة تشجع الأبناء على الهجرة غير الشرعية. في المقابل أعرب 52 % من الشباب عن نيّتهم الهجرة مجدّدا، وتتراوح هذه النسبة بين 65 % بالنسبة للذكور و41 % للإناث. ومن الملفت للنظر أنّ نسب الرافضين للهجرة ومن يريدون خوض هذه التجربة تبدو متقاربة في الوسط غير البلدي، حيث بلغت على التوالي 48.8 % و48.3 %. بينما عبّر 54.3 % من شباب الوسط البلدي عن رغبتهم في الهجرة. وتُعدّ الأوضاع الاقتصادية وانعدام فرص العمل من أهمّ أسباب الهجرة، ممّا جعل 15 % من هؤلاء الشباب يقبلون عليها حتى وإن كانت دون تأشيرة. مسعود الرمضاني ل«الصباح الأسبوعي»: لا لوم على العائلات المنخرطة في الهجرة السرية أكّد رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية مسعود الرمضاني ل»الصباح الأسبوعي» أنّه «لم يعُد من المستغرب تشجيع العائلات لأبنائهم على الهجرة السريّة في ظلّ الظروف الصعبة التي تمرّ بها البلاد وانتشار البطالة». وقال الرمضاني «في الدراسة التي أعدّها المنتدى سنة 2012 لاحظنا أنّه عادة من يشجّع على الهجرة هو العائلات التي تضمّ أبناء عاطلين عن العمل، ما يؤثر على بقية أفراد العائلة خاصة المزاولين للتعليم فيجنحون إلى الانقطاع بسبب انعدام الأفق في نظرهم». وأضاف رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أنّ «المؤكّد أنّ الأولياء الذين يُشجّعون أبناءهم حتى على الهجرة غير الشرعيّة يستندون في ذلك إلى معطى اجتماعي مهمّ ألا وهو انتشار البطالة في صفوف الشباب وأصحاب الشهائد العليا، إلى جانب العبء الكبير الذي أصبح هؤلاء العاطلون سواء كانوا إناثا أو ذكورا، فلم تعد لديهم خيارات رغم المخاطر المؤكّدة». وبيّن مسعود الرمضاني أنّ «جلّ الشباب ممن يرغبون في الهجرة ويسعون حتى إلى الهجرة غير شرعية يؤكدون دائما أنّه حتى لو هناك أمل ب10% للنجاة وتحقيق الحلم وأنّ هناك موتا مؤكدا بنسبة 90% ، فإننا سنختار النسبة الضئيلة من الأمل». وقال إنّ «أسوأ الأمور هو فقدان الأمل لغياب أيّ أفق لمشاكل البطالة التي لن تُحلّ حتى على مدى 15 أو 20 سنة إلى جانب غلاء المعيشة وتدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي» وأضاف «لذلك أعتقد أنّ للعائلات مبرّراتها وأسباب للانخراط في التشجيع على الهجرة غير الشرعية باعتبار أنّ المستقبل القريب غير مضمون». وأفاد رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية «لاحظنا في المنتدى من خلال عمليات الرصد أنّ هناك ثلاث ظواهر نعيشها متزامنة في تونس وهي ظاهرة العنف والانتحار والهجرة السريّة والتي تعود أسبابها إلى الظروف الصعبة التي نمرّ بها إلى جانب عدم وضوح الرؤية في سياسات الحكومة، وبالتالي لا يمكن توجيه اللوم إلى هذه العائلات ولا الفئات الشبابية». في 9 أشهر.. تطور عدد النساء «الحارقات» بمن فيهن الحوامل من 1 % إلى 5 % أحبط الحرس الوطني في أقلّ من تسعة أشهر 164 عملية اجتياز نحو إيطاليا وذلك منذ بداية سنة 2017 إلى حدود 5 أكتوبر الجاري، وقد تمّ خلال هذه الفترة القبض على 1652 شخصا منهم 1384 تونسيا وإيقاف 75 من منظمي هذه العمليات. علما وأنّه خلال شهر سبتمبر الماضي فقط تمّ إحباط 58 عملية اجتياز أي بنسبة أكثر من 35% من العدد الجملي للعمليات ومن ثمّة القبض على 866 حارقا منهم 627 تونسيا أي ما يفوق 45 % من عدد التونسيين الموقوفين خلال 9 أشهر. والملفت للانتباه أنّ نسبة النساء «الحارقات» في نفس هذه الفترة من السنة الحالية بلغت 5% لترتفع بأربع نقاط مقارنة بسنة 2016 حيث سجّل الحرس الوطني 1% من النساء اللاتي حاولن اجتياز حدود الوطن في اتجاه إيطاليا السنة المنقضية. والجدير بالملاحظة أن عدد عمليات «الحرقة» ارتفع بين سنتي 2016 و2017، إذ أحبط الحرس الوطني خلال السنة الماضية 102 عملية اجتياز في اتجاه إيطاليا وتمّ أثناءها إيقاف 1035 «حارق» منهم 938 تونسيا ومسك 49 من منظمي هذه العمليات. كما تمّ خلال نفس الفترة حجز 31 مركبا: 19 زورقا وأربع بواخر تجارية. و قد أكد الناطق الرسمي باسم الحرس الوطني خليفة الشيباني خلال اللقاء الإعلامي الشهري أنّ محاولات اجتياز الحدود خلسة تُعد عمليات اتجار بالبشر ويُعاقب عليها القانون. فشل النماذج التنموية أدى إلى استشراء ظاهرة الهجرة السرية اعتبر الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل نورالدين الطبوبي أنّ « سبب استشراء ظاهرة الهجرة السرية هو فشل النماذج التنموية في بلدان جنوب المتوسّط وجنوب الصحراء التي أفرزت مئات الآلاف من العاطلين عن العمل وخلّفت الفقر والحرمان وولّدت الحيرة واليأس». وأكّد الطبوبي في كلمته يوم الجمعة الفارط خلال الندوة التكوينية لمنسّقي الشبكة النقابية حول «الهجرة ببلدان جنوب الصحراء والبلدان المتوسطية التي انتظمت أيام 6و7و8 أكتوبر الجاري، أنّ «تنامي الكراهية والعنصرية في بلدان شمال المتوسّط والتي استهدفت و مازالت المهاجرين في كرامتهم و استقرارهم واستقرار عائلاتهم وفي حقوقهم الأساسية و أمنهم ،وتحمّلنا جميعا كنقابات أوروبية ومتوسطية وإفريقية مسؤوليات اجتماعية ومجتمعية تجاه هذه الفئة البشرية ذات الاحتياجات الخصوصية». وأضاف أنّ هذه الوضعيات «تضعنا أمام واجبات ومهام عاجلة وآجلة منها بالخصوص الدفع في اتّجاه إعادة النظر في بعض الاتفاقيات الدولية حول الهجرة، وممارسة الضغط على حكوماتنا من أجل مراجعة تلك الاتفاقيات على قاعدة الإنصاف ووفق منطق حقوقي أكثر احتراما للذات البشرية. هذا علاوة على العمل من أجل مراجعة بعض الاتفاقيات الثنائية الخاصة بالهجرة لتكون أكثر تكريسا للحماية ولمبدإ المساواة وإطارا مرجعيا فعّالا في مجال الحفاظ على حقوق المهاجرين أينما تواجدوا في بلدان الشمال كما في بلدان الجنوب.» وقال «إنّنا لا نشكّ في أنّ ما تقوم به الشبكة وما تعتزم القيام به من مجهودات لتنسيق المواقف وفهم الإشكاليات المرتبطة بالهجرة ولتنمية قدراتها وتحسين أدائها في مجال التعبئة والتأطير وبناء التحالفات مع المجتمع المدني محليّا ودوليّا إنّما يندرج في سياق المسعى الدولي العام من أجل بلورة «ميثاق عالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظّمة والمنتظمة» المزمع اعتماده خلال سنة 2018 ليكون وثيقة أممية مرجعية في مجال الحوكمة الدولية لمسألة الهجرة». إعداد: إيمان عبد اللطيف