يختزن ناجي جلول، المرشح "المستقل" لرئاسية 2019، في تجربته الفكرية والمهنية، سنوات طويلة من التدريس الجامعي، جاب خلالها مع طلبته ثنايا التاريخ القديم والوسيط والحديث، ومثلت بالنسبة إليه، البوابة والمدخل لاقتحام عوالم الجدل السياسي، بداية، تحت يافطة الحزب الديمقراطي التقدمي، المصنف في خانة اليسار، ووصولا إلى "نداء تونس" المحسوب، سياسة وفكرا ومرجعية، على وسط اليمين. يساري المنشأ، غير أنه لا يتردد في ارتداء قفازات الليبرالية. إنه واحد ممن انتهت بهم رحلة "التقدمية" الفكرية، إلى ملاذات "التقدمية" المجتمعية، وإن ارتدى الأمر في بعض الأحيان لبوس المراجعات الفكرية، وتدثر في أكثر الأحيان برداء واقعية الصراع السياسي/المجتمعي، الذي يدفع نحو "اليمين". كثيرا ما يقال بأن علاقة تضاد ترتسم في سماء العلاقة بين الباحث والأكاديمي، من ناحية، ورجل الممارسة العملية للسياسة، من ناحية أخرى، بحسب ما ذهب إليه عالم الاقتصاد والسياسة الألماني، ماكس فيبر. وفي نظر بعض أنصاره، حاول ناجي جلول، ولا يزال، ضمن محطاته السياسية والفكرية، تحويل غبار التاريخ إلى سماد ناجع، وتغيير النظري الجاف إلى صناعة تخوض امتحان مختبرات الحياة. ولد جلول سنة 1957 في معتمدية البقالطة من ولاية المنستير، ليدرس التاريخ ضمن مبحث واسع اسمه العلوم الإنسانية، الذي شغل جيل السبعينات والثمانينات، ووجد نفسه في بحثه عن مسرب للنشاط المدني المجتمعي، ضمن متنفس وطني اسمه اتحاد الشغل، وتدقيقا، نقابة التعليم العالي، التي امتزج فيها السياسي بالنقابي، تعويضا عن حالة الانغلاق التي خنقت البلاد لعقود طويلة. بعدها ارتمى ناجي جلول في حاضنة الديمقراطي التقدمي، مع أحمد نجيب الشابي ومنجي اللوز ومية الجريبي، قبل أن ينخرط سنة 2012، في سياق وضعية الاستقطاب التي شهدتها البلاد بعد انتخابات التأسيسي وبروز النهضة كفصيل أغلبي في البرلمان، في مشروع بناء حزب نداء تونس، ويتبنى نداء المرحوم الباجي قائد السبسي في ذات بيان بتاريخ 26 جانفي 2012. انخراط أحدث "تغييرا" في مسيرته جلول الشخصية، ليتحول في ظرف أشهر غير كثيرة من معارض إلى وزير للتربية. لكن وزارة بتلك الرمزية وذاك الثقل، كانت عليه امتحانا عسيرا .. جعله يجلس على "برميل بارود" بين سندان النقابات ومطرقة المعارضين من أطياف المجتمع السياسي والحزبي، لينتهي به الأمر خارج أسوار بناية باب بنات. هل كان إخفاقا منه في وزارة "ثقيلة"، أم هي إكرهات توازنات السلطة والنفوذ في الدولة ؟ المحصلة البسيطة والأكثر عمومية، تشي بأن ناجي جلول لم ينجح وقتها في إيجاد صيغة توافق عليا مع نقابات التعليم الثانوي، فكانت إقالته يوم الأحد غرة ماي 2017. انسحب (أو سحب) من هناك، ليقفز في مكان آخر، بإرادة الرئيس الراحل قايد السبسي، الذي عينه رئيسا للمركز التونسي للدراسات الاستراتيجية... قلعة يتمثلها الأكثرية على أنها فضاء لإنتاج المعرفة وتنوير أصحاب القرار .. لكن جلول، وبفعل شخصيته التي يستهويها الجدل الفكري والسياسي، لم يتردد في أكثر من فرصة في ارتداء جبة المحاججة السياسية، سواء باسم الإنتماء الحزبي، أو باسم حماسة الأكاديمي للانخراط في المعارك الفكرية والمجتمعية. يذهب الكثيرون، عن حق أحيانا، وعن مبالغة أحيانا أخرى، إلى القول بأن بذور الحلم بالرئاسة، انبثقت لدى ناجي جلول، من معين تشتت عائلته الحزبية، لا سيما مع أفق انزياح المؤسس قايد السبسي عن الساحة، وأيضا من غمار تجربة المركز، ضمن صميم مهماته، في اشتغاله على برنامج حكومي ينقذ البلاد في ظرف ستة أشهر. وتبعث التفاصيل والأرقام التي أضحت تؤثث، منذ أشهر، خطاب جلول في المنابر الإعلامية، والتي كثيرا ما تستحضر مخرجات تلك الدراسة، على ترجيح الفرضية الثانية، رغم أن "عدوى" السياسة ومغناطيسها الجاذب يظلان من العوامل الحاسمة في اتخاذ قرار الترشح..