تونس - الصباح من المقرر أن تبت محكمة الاستئناف العسكرية الأسبوع القادم في قضية مجموعة من المتهمين الرئيسيين في قضايا العنف واحداث ما قبل 14 جانفي 2011 وبينهم وزيرا الداخلية الاسبقين رفيق الحاج قاسم واحمد فريعة والمدير العام للامن الوطني عادل الطويري وآمر الحرس الوطني العابد محمد الامين العابد ..وعدد من المديرين العامين السابقين في وزارة الداخلية الخ.. السيدة فيولات داغر رئيسة اللجنة العربية لحقوق الانسان الناشطة الحقوقية المعروفة في تونس وعربيا ودوليا قبل الثورات العربية وبعدها من بين الحقوقيين القلائل التي تزور السجون التونسية والتقت الموقوفين في قضايا ذات صبغة سياسية وامنية ورسميين بينهم الرئيس المؤقت المنصف المرزوقي .. التقيناها فكشفت لنا في الحوار التالي معلومات مهمة عن"ألغاز " المحاكمات والمستجدات في تونس من منطلق حقوقية ترفض "سياسة المكيالين": * اولا، من خلال تجربتك في منظمات حقوق الإنسان العربية والدولية كيف تقيمين تطور ملفات حقوق الإنسان في تونس بعد ثورة 14 جانفي 2011 ؟ - لو أردنا الإيجاز يمكن القول أن انتهاكات حقوق الإنسان في هذا البلد لم تتوقف بعد ثورة 14 جانفي 2011، وأن عدة قوانين يمكن النفاذ منها لممارسة انتهاكات بقيت على حالها مثل قانون التظاهر أو قانون الإعدام - وإن كان لا يطبق. .. هذه الانتهاكات كانت ممنهجة قبل الثورة ، لكنها باتت أقرب لتجاوزات فردية بعدها.. لم يعد يصح القول فيها أنها سياسة نظام لان الإرادة السياسية للتغيير موجودة. ..لقد أصبح بالإمكان متابعة الشكاوى، وإن كان القضاء في حاجة الى إصلاحات حقيقية . .. ان النقلة النوعية لا يمكن أن تتم إلا بتراكم الإرادات الخيرة والعمل الدؤوب لصناعة الغد الذي يطمح له بنات وأبناء هذا البلد.. إضافة لعامل الوقت الذي له الدور الكبير في تغيير العقليات والثقافة السائدة التي ما زالت مطبوعة عند الغالبية بما عانته في ظل نظام دكتاتوري .. خطوتان الى الامام .. خطوة الى الوراء * هل تعتبرين ان المقاييس الاممية والدولية لحقوق الانسان يجري احترامها في تونس ما بعد الثورة؟ - المواثيق الدولية لم يقع احترامها في أكثر من مجال، وبالطبع الدستور الجديد له علوية عليها.. وقد عبر بعض أعضاء المجلس التأسيسي عن رغبتهم بإلغاء ما سبق أن وقع الإتفاق عليه مثل رفع تحفظات على اتفاقية السيداو أو إتفاقية الاتجار بالأسلحة ..رفضت حكومة علي العريض توقيعها. بالمقابل، تمت الموافقة على هيئة الوقاية من التعذيب ..، كما تشكلت الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب، بما يجعل تونس الدولة العربية الوحيدة التي شكلت مثل هذه الهيئة. انتقادات لقانون العدالة الانتقالية لكن مقابل الخطوتين للأمام هناك خطوة للوراء... فلو أخذنا على سبيل المثال قانون العدالة الانتقالية الذي قد يكون من أهم القوانين التي كتبت بعد ثورة 14 جانفي، نجد الانتقادات كثيرة بخصوصه. فهناك من أشار للفصل 25 على أنه من أخطر الفصول من حيث تشريعه لانتهاك حق التظلم على أساس أن قرارات لجنة الفرز غير قابلة للطعن.. وراج أن حكومة "الترويكا" كانت مسؤولة عن غياب الإرادة السياسية لوضع أسس قوية لهذا القانون، وأنها التفت في الربع ساعة الأخير على المشروع الذي تقدمت به منظمات المجتمع المدني فأفرغته من محتواه. وعدم تعديل هذا القانون قد يضر بصيرورة العدالة الانتقالية... * وماهو رأيك في الصلاحيات الواسعة ( و" المخيفة " ) التي منحت لهيئة الحقيقة والكرامة ؟ - بالفعل لقد وجهت انتقادات شديدة لهيئة الحقيقة والكرامة التي خصها قانون " العدالة الانتقالية" ب55 فصلا من القانون وتمتيعها بصلاحيات واسعة من حيث: النفاذ للأرشيف العمومي والخاص وإجراء التحقيقات وتنظيم جلسات الاستماع وتحديد المسؤوليات في الانتهاكات- رغم الإحالة للنيابة العمومية للملفات التي يثبت فيها ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان- وتداخل صلاحيات الهيئة في بعض الأحيان مع صلاحيات الضابطة العدلية إن لم يكن تجاوزها. علاوة على تركيبتها التي يمكن من خلالها انتهاك حقوق الإنسان لمن يفترض بهم معالجة انتهاكات حقوق الإنسان التي تراكمت على مدى عقود. وعلى هذا المنوال يمكن قراءة بقية ما صدر والتوجس مما هو في طور التحضير. السجون بعد الثورة ؟ * كنت من الحقوقيين القلائل الذين سمح لهم بزيارة السجون التونسية بعد ثورة 14 جانفي والتقيت بعض السجناء في قضايا ذات صبغة سياسية وامنية كيف تعاملت مع ملفاتهم ووضعياتهم ؟ - لاحظنا ازدواجية المعايير في التعاطي مع هذه الملفات السجناء في قضايا ذات صبغة سياسية.. الازدواجية واضحة للعيان منذ البداية، سواء كان من طرف السلطات السياسية والقضائية أو المنظمات الحقوقية. ..الأمر الذي زاد من اهتمامي بهذه القضية، وبالتعاون مع نائب رئيس جمعية تأهيل المساجين الاستاذ زهير مخلوف، انكببنا على هذا الملف. لذلك حرصت على متابعة جلسات المحاكمة وكل ما يفيد في الدفاع عن حقوق المتهمين من زيارات للسجن أو اتصال بالمحامين وبعائلات المتهمين والضحايا ، يحدوني في ذلك الأمل بمحاكمة عادلة بعد 3 سنوات خلف القضبان وأحكام ابتدائية غير عادلة... في نفس الوقت عملت على إسماع صوت المتهمين من خلال الخروج في الإعلام بما أتيح من فرص لم تكن حقيقة كثيرة، رغم المحاولات العديدة لفتح هذا الباب، وخاصة القنوات التلفزية التي كانت شبه موصدة. فغالب هؤلاء الذين يحاكمون على أساس أنهم شركاء بالقتل لم يثبت عليهم ما يدينهم، وبالتالي فهم محكومون بحكم الوظيفة لا الأفعال. ملفات الحاج قاسم وعادل التويري ؟ * انت مع نائب الرئيس الاستاذ زهير مخلوف تتابعان منذ مدة ملف عدد من المتهمين الخطيرين بينهم وزراء وضباط كبار في الامن .. هل لك أن تفصلي بعض ما توصلت اليه؟ - بداية لا بد من القول أن المدير العام للأمن الوطني، عادل التويري، القابع بسجن المرناقية، كان قد كرر على مسامعنا ما أكده مراراً للقضاء أنه أصدر تعليمات صارمة لمدرائه العامين بمراكز وزارة الداخلية وجهويا لضبط النفس وعدم استعمال الذخيرة الحية وبتسليم الأسلحة للجيش الوطني. ..كذلك فعل وزير الداخلية في ذلك الحين، رفيق بلحاج قاسم، الذي أقيل صباح 12 جانفي من منصبه. رغم ..ذلك اتهم هو أيضاً بالمشاركة في القتل العمد وأوقف في 1 فيفري دون إذن قضائي وحكم ب37 سنة سجنا دون إثباتات تؤكد أنه قد أعطى تعليمات بإطلاق النار على المحتجين... التسجيلات ..وارشيف قاعة العمليات * هل يمكن تقديم تفاصيل وامثلة ؟ - الأمثلة كثيرة، لكن لا يمكن الحديث هنا عن الجميع بأسمائهم لضيق المكان. إنما على العموم، كانت التسجيلات في قاعة العمليات في وزارة الداخلية وفي نظام تسجيل الوحدة المركزية قد أثبتت خلوها من أوامر أعطيت لقتل المتظاهرين.. كما أن ميدانيين ومدراء في وزارة الداخلية شهدوا بأنهم لم يتلقوا أوامر بإطلاق النار، بل أُخذوا تعليمات بضبط النفس وعدم إطلاق الرصاص والعمل على جمع السلاح من المراكز وتسليمه للجيش. وهو ما تم فعلاً وثبت بالمحاضر المسجلة بين القوات الأمنية والجيش الوطني. لا ننسى أنه في ذلك الوقت جرت في جهات عديدة من البلاد حوادث عنف واستهداف لمؤسسات الدولة خاصة منها الأمنية، أشاعت الذعر والبلبلة ووسعت رقعة الاشتباكات وأثرت على سلمية الثورة. وكانت وزارة الداخلية قد أصدرت كشوفات في بداية الأحداث بالأسلحة التي فقدت وبأعمال العنف التي حصلت. منها على سبيل الذكر لا الحصر: عمليات حرق ل 17معتمدية، و23 بلدية، و132 مركز أمن وطني، و112 مركز وحدة حرس وطني، و19 مؤسسة تربوية، و11 محكمة، و166 مؤسسة إدارية، و29 إدارة تابعة لوزارة المالية، و5 مراكز بريد، و9 محطات نقل، و114 وسيلة نقل، و33 فرعا تابعين لمؤسسات بنكية، و72 شركة تجارية، و15 مؤسسة صناعية. هذا عدا عمليات السرقة والنهب وإتلاف المعدات وغيره من أضرار وقعت في أماكن كثيرة ومنها من تم استكمالها بعمليات إحراق بقية محتوياتها. تعامل انتقائي مع الملفات ؟ * كيف تتابعون المحاكمات ؟ هل تسير في ظروف فيها احترام للضمانات القانونية ؟ - الغريب أنه جرى في المحاكم العسكرية فصل حوادث القتل التي حصلت قبل 14 جانفي عما بعده. فاعتبرت الأولى جريمة، في حين لم تعتبر الثانية "قتل عمد". وتم التحقيق مع عشرات من الأشخاص.. لكن التهم وجهت بالانتقاء.. وأودع السجن البعض بصفة انتقائية ..وقد كشفت الابحاث (وتقرير لجنة السيد توفيق بودربالة ) ان عدد الذين قتلوا في الأحداث بعد 14 جانفي يفوق بثلاثة أضعاف ونصف من قتلوا قبل فرار بن علي ... وكأننا بالذين قتلوا بعد 14 جانفي لا قيمة لزهق أرواحهم ولا متابعات لمن تسبب في قتلهم.. مرسوم لم يصادق عليه البرلمان ؟ * وهل لم تحترم الضمانات في تقاض عادل امام المحاكم ايضا ؟ - ألفت النظر إلى تعاقب الخروقات والثغرات في بعض المحاكم ايضا .. ان مجلة العقوبات العسكرية كان قد تم تنقيحها بعد الثورة بموجب مرسوم غير مصادق عليه من البرلمان، لكن ما زال يُعمل به حتى الآن.. في نفس الوقت تم تنقيح الفصل 22 من قانون 82 المتعلق بتركيبة المحكمة العسكرية التي تنظر في القضايا التي يحال فيها الأمنيون اليوم. الأمر الذي يعني أنه كان هناك توجه ما لتحميل "بعض الأمنيين" مسؤولية ما جرى دون منحهم إمكانية الدفاع عن أنفسهم.. فكيف يمكن لمحكمة أن تقصي إمكانية أن الأمني عندما يستعمل السلاح لا يكون في حالة دفاع شرعي عن النفس، علماً أن الفصل 50 من مجلة الإجراءات الجنائية يوجب على القاضي البحث بالتساوي باتجاه البراءة والإدانة؟ جل المحاكم ذهبت فقط باتجاه الإدانة على أساس مرسوم صدر بعد الثورة واعتبر كل المتوفين قبل 14 جانفي شهداء..دون الذين قتلوا بعدها .. بالرغم من كون المحكمة العسكرية في الكاف أقرت في حيثية من الحيثيات بأن المظاهرات السلمية قد تخللتها أعمال شغب من أفراد اندسوا بين المتظاهرين.. لكن لم نر ترجمة لهذا المعطى في الأحكام حتى الآن. ورغم أن محكمة الاستئناف العسكرية قد سعت بكل جهدها لمعرفة الحقيقة من خلال إصدار مئات الأحكام التحضيرية، مع ذلك لم تتوصل لإثبات الإدانات. بصيص أمل .. * وكيف تنظرين الى المستقبل ؟ - رغم كل ما سبق ، ما زال المتهمون وعائلاتهم يرون بصيص أمل في النطق بالحكم بعد 11 افريل الجاري في قضايا تونسوالكاف وصفاقس، حيث ستجري يومها جلسة الأعذار التي كانت قد أجلّت من أجل اطلاع محكمة الاستئناف العسكرية على التقارير الدسمة التي قدمها محامو الدفاع. فعسى خيراً، ولننتظر ونرى.. لقاء مع المرزوقي ورفاق قدامى * كنت التقيت برئيس الجمهورية المؤقت الدكتور المرزوقي زميلك السابق في اللجنة العربية لحقوق الإنسان، وبنشطاء حقوقيين عرفتهم سابقا في تونس، الم يسهل ذلك مهمتك الحقوقية مع المساجين السياسيين والأمنيين ؟ - لا للأسف.. يرى المتهمون أن تأثيراً ما على القضاء قد حصل من طرف سلطة الإشراف المتمثلة في رئيس الجمهورية، باعتباره رئيساً للمؤسسة العسكرية وتوابعها (كالمحكمة العسكرية ونيابتها). وهم يرجون منه أن يلتزم الرصانة والحيادية والموضوعية، بدل إصدار مواقف شخصية وانفعالية من شأنها التأثير في توجيه سير المحاكمات، خاصة وأن الكثير من الحقائق التي تتعلق بثورة 14 جانفي لم تظهر بعد. وزارة الداخلية تخلت عنهم ؟ كما يعتبر الأمنيون القابعون وراء القضبان أن وزارتهم قد تخلت عنهم ولم تدافع عن قضيتهم رغم عدم توفر اثباتات تدينهم ورغم التزامهم بقانون عدد 4 لسنة 1969 الذي ما زال ساري المفعول حتى اليوم... هم يرون أن المحاكمات العسكرية المسلطة عليهم تندرج في سياق المحاكمات السياسية الظالمة، حيث أنهم لم يكونوا إلا أداة لتطبيق وتنفيذ القوانين. ويتمنون أن يأخذ القضاء مجراه بعيداً عن الدعاية والمزايدة السياسية التي تأتي في بعض الأحيان من أطراف حزبية ترغب في عدالة انتقامية، وأخرى تعمل جاهدة لترسيخ عدالة انتقائية عرجاء تضر بالضحايا وبالمتهمين وبالحقيقة وتنال من الذاكرة الوطنية، لصالح أطراف سياسية همها الوصول للحكم أو الانتقام ممن شغله، كلف ذلك ما كلف الوطن والمواطنين. حقوقيون تحولوا الى " تجار" * لماذا لا تلجأ العائلات والحقوقيون النزهاء الى المجلس الوطني التاسيسي المنتخب؟ - للاسف فان بعض الموقوفين والمتهمين يتهمون بعض أعضاء المجلس الوطني التأسيسي بلعب دور مشبوه في التأثير السلبي على سير المحاكمات والتدخل في السلطة القضائية... وعوض الاهتمام بمعالجة الجرحى والعناية بعائلات الشهداء، فقد نصبوا أنفسهم قضاة يحق لهم أن يدينوا وأن يحكموا ضد الموقوفين ويصفوهم بالقتلة والمجرمين قبل البت قضائياً في البراءة أو الإدانة. عبّر هؤلاء الأمنيون الموقوفون لنا عن خشيتهم أيضاً من التأثيرات السلبية التي يمارسها بعض محامي الحق الشخصي من خلال الضغط على القضاء عبر بعض التصريحات في وسائل الإعلام والتشهير بمتهمين قبل ثبوت الإدانة ..وشخصيا اعتبر أن بعض الحقوقيين تحولوا الى "تجار" وان بعض المحامين يلعبون دوراً مخلاً بمسارات المحاكمات العادلة والنزيهة والشفافة، كما أن لهم دوراً خطيراً في إلحاق الضرر النفسي والمعنوي بأبناء وبنات وزوجات وعائلات المتهمين.. كما يتهم بعض المحامين باقحام منظماتهم الحقوقية طرفاً في المحاكمات، بحيث نالوا من حيادية المنظمات التي ينتمون لها وانتهكوا مبادئ المحاكمة العادلة وقيم حقوق الإنسان التي تنبني على قرينة البراءة. في حين أن هذا الوضع يتطلب معالجات مختلفة كي تكشف الحقيقة وتظهر حيثيات وخفايا الثورة التونسية ويأخذ كل ذي حق حقه ولا يظلم أحد زوراً وبهتاناً.