في ظل الظرف الصعب الذي تمر به تونس وتوالي الأحداث الداخليّة والخارجيّة المؤثرة سلبا على مصالحها الحيويّة ، ارتأيت كدبلوماسي ناشط في المجتمع المدني مهموم بالشأن الوطني ، أن أتوجه إليكم بهذا النداء أملا في جلب اهتمامكم الى قضيّة العلاقات بين تونس والاتحاد الأوروبي المقبلة على تطورات هامة ومصيريّة في المرحلة القادمة . لقد تم الإعلان رسميا ، خلال الزيارة الأخيرة التي أداها الى تونس المفوض الأوروبي للحوار عن قرب التوقيع في منتصف شهر أفريل الجاري 2014 ، عن اتفاقيّة مع تونس يقع بموجبها اعتماد وتفعيل الاتفاق الاطاري لبرنامج العمل الموقع بتاريخ 16 نوفمبر 2012 والمتعلق بعلاقات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي من خلال توسيع منطقة التجارة الحرة المقتصرة حاليا على السلع الصناعيّة بموجب اتفاقيّة الشراكة لسنة 1995 لتشمل قطاع الخدمات والسلع الزراعيّة وصولا إلى رفع كلي للحواجز الديوانية والقيود الإداريّة أمام كافة أشكال المبادلات السلعيّة والخدميّة . ولابد من التذكير في هذا السياق بالشروط السياسيّة والاقتصاديّة المجحفة المفروضة على تونس من قبل البرلمان الأوروبي لمنحها قرضا ب 500 مليون أورو ومنها التسريع في فتح الأسواق التونسيّة دون قيود ديوانيّة وضريبيّة أمام السلع والمستثمرين الأوروبيين مع تمكينهم أيضا من حريّة الانتصاب والعمل والملكية الفلاحيّة وهو ما يطرح تساولات حول مدى ملائمة الالتزامات المترتبة عن الشراكة مع اوروبا مع بنود الدستور التونسي الجديد فيما يتصل بالحفاظ على سيادة تونس على الثروات الوطنية و احقيتها في تحديد اولوياتها التنموية بما يتلائم مع احترام استحقاقات الثورة . وعلى الصعيد السياسي يشترط البرلمان الأوروبي ان تتبنى تونس نظام حكم برلماني متعدد الأحزاب في تجاهل واضح لإرادة الشعب التونسي وقراره السيادي وما ارتضاها لنفسه في دستوره الجديد من نظام سياسي قائم على التوازن بين السلطات وما أقره الدستور من قواعد ومحددات صارمة فيما يتعلق بضرورة سهر الدولة التونسية على فرض احترام سيادة تونس على أرضها ومقدراتها الاقتصادية وثرواتها الوطنيّة والطبيعية وهو ما يحتم مراجعة كافة المعاهدات والالتزامات الدوليّة السابقة واللاحقة وملاءمتها مع مقتضيات الدستور والمصالح الوطنية العليا لتونس . اللافت للانتباه أن الغاية القصوى لبرنامج العمل الممتد من 2013 الى 2017 هي إدماج تونس نهائيا في منظومة اقتصاد السوق الحرة والمفتوحة بإحداث منطقة تجاريّة حرّة تونسيّة أوروبيّة كاملة ومعمقة لا تقتصر على حريّة تبادل السلع الصناعية و الزراعية والخدمات بل تشمل أيضا حريّة الانتصاب للشركات الأوروبية بتونس وحريّة استثمارهم في كافة القطاعات الانتاجية والخدمية بما فيها الزراعة وامتلاك الأراضي الفلاحيّة في حين أن القطاعات الخدميّة والسلعيّة والإنتاجية التونسيّة المزمع تحريرها ، ومنها قطاعي البنوك والتأمينات والزراعة غير مؤهلة لتحمل المنافسة الأوروبيّة في الداخل والخارج . وهكذا فان هذا البرنامج ليس سوى توسيعا لتجربة الشراكة لسنة 1995 التى اثبتت فشلها في تحقيق الهدف السياسي الاسمى لمسار برشلونة المتمثل في اقامة فضاء متوسطي للسلم و الاستقرار و التنمية المتبادلة لبلدان ضفتى المتوسط فضلا عن فشلها في تأهيل الصناعات التونسيّة التي راهنت عليها تونس ، لكسب أسواق جديدة وتنميّة صادراتها ، مقابل تخليها عن الموارد الماليّة الهامة المتأتية من الضرائب الديوانيّة التي كانت موظفة على الواردات من السلع الصناعية الأوروبيّة مما زاد في تبعيّة الاقتصاد التونسي للقروض الخارجيّة كما زاد في تقليص موارد الميزانيّة وتعميق العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات. وتخشى العديد من الأوساط السياسيّة والاقتصاديّة وقطاع الأعمال بتونس من هيمنة الجانب الاوروبي دون مقابل على كامل مفاصل الاقتصاد التونسي في حالة استكمال منطقة التجارة الحرة الكاملة والمعمقة بسبب هشاشة الأوضاع الاقتصاديّة بتونس وضعف القدرة التنافسية للقطاعات الانتاجية والخدمية التونسية المستهدفة بالتحرير والخصخصة مما سيزيد في تكريس أزمة المديونية المفرطة وسيقلص من قدرة الدولة على انجاز الاصلاحات الاقتصادية الهيكليّة الضرورية و الاضطلاع بالدور الاقتصادي التعديلي المطلوب منها بموجب الدستور خاصة فيما يتعلق باالتنمية الجهوية و التشغيل و رعاية الشباب و مقاومة الفقر و التهميش. كما ان المضي قدما في ادماج الاقتصاد التونسي صلب الاتحاد الاوروبي يودي في اقع الامر الى الانخراط نهائيا في منظومة اقتصاد السوق الحر داخل الفضاء الاوروبي وهو ما يتعارض مع بنود الدستور التي توكد على انتماء تونس للمغرب العربي و تدعوها للعمل على تجسيمه ووضع نمط تنموي جديد قائم على تحقيق العدالة الاجتماعية واعطاء الاولوية للتنمية الجهوية و الحفاظ على سيادة الشعب على ثرواته الوطنية و حسن استغلالها. لذالك فان تونس ستكون محقة ، بعد الضغوط و الإملاءات الاوروبية المشار اليها ، اذا طلبت ارجاء مجلس الشراكة التونسي الأوروبي المزمع عقده في منتصف أفريل لإقرار برنامج العمل المشترك للفترة 2013 2017 المتعلق بتحرير بقية القطاعات الاقتصادية امام المنافسة الاوروبية غير المتكافئة خاصة و أن هذا الموقف يطرح تساؤلات حول مدى جدية الجانب الاوروبي في احترام التزامه بالمساعدة على انجاح الانتقال الديمقراطي بتونس و احقيتها بعد الثورة في مراجعة التزاماتها الدولية و خياراتها الإقتصادية و تعديلها وفقا لدستورها الجديد و لمصالحها وظروفها الاقتصادية وأولوياتها الوطنية. ولا بد من التذكير بأن علاقات الشراكة بين أوروبا والضفّة الجنوبية للمتوسط انطلقت في بداية التسعينات تزامنا مع مسيرة السلام الفلسطينية الاسرائلية ومسار برشلونة الذي يكتسي بعدا سياسيا بالأساس حيث كان يطمح لإقامة فضاء متوسطي للسلم والاستقرار والتنمية المشتركة والمنفعة المتبادلة لشعوب الضفتين الجنوبية والشمالية للمتوسط ،ولكن النظام السابق تبنى هذا الخيار لخدمة مصالحه دون التحسب لتبعاته الإقتصادية الكارثية خاصة وأنه أساء التصرف في المساعدات الضخمة التي قدمت في شكل هبات وقروض الى تونس لتأهيل اقتصادها حتى يتسنى له الإستفادة من الانفتاح على الأسواق الأوروبية على أساس التبادليّة والمصالح المشتركة . ولعل هذه من أكبر الجرائم التي ارتكبتها الدكتاتورية في حق الشعب التونسي خاصة وأنها مضت أشواطا كبيرة منذ 2006 في المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي لتوسيع منطقة التجارة الحرة الى القطاعات الخدمية والفلاحية دون تقييمها والبحث في أسباب فشلها للنظر في امكانية مراجعتها ،بما يتلاءم مع المصلحة الوطنية لتونس . وكان من المفترض أن تتولى الحكومات المتعاقبة بعد الثورة مراجعة هذه الشراكة من كافة جوانبها أخذا بعين الاعتبار تدهور الأوضاع الاقتصادية بتونس وهشاشة القطاعات الخدمية المستهدفة بتوسيع الشراكة ، فضلا عن مرور البلاد بمرحلة انتقالية لا تخولها الدخول في مثل هذه الاتفاقيات ذات الطابع الاستراتيجي المصيري لاسيما وأنّها موروثة في مكوناتها الأساسية عن النظام السابق الذي كان مستعدا لكافة التنازلات للشريك الأوروبي مقابل استمراره في السلطة . كما أن المنظومة الاقتصادية الفاسدة للنظام السابق المرتبطة بهذه الشراكة تظل قائمة الى يومنا هذا كما كشفه تقرير البنك الدولي الأخير الذي أكد أنه تم توظيف الانفتاح الاقتصادي على الخارج فقط لخدمة العائلة الرئاسية والأطراف الاقتصادية والسياسية المتحالفة معها على حساب مصلحة الشعب التونسي . و خلاصة القول فان المراجعة الجذرية لهذه الشراكة ضروري وهو بمثابة تحصين للثورة من السياسات الفاسدة للنظام السابق المضرة بمصالح تونس. ومهما ما يكن من أمر ، فإن المجال يظل متاحا بالنسبة لتونس لتدارك هذا الوضع طالما أنها لم توقع بعد نهائيا على برنامج العمل المتعلق بتوسيع منطقة التجارة الحرة ، كما أنها لم تعتمد بعد مشروع مجلة الاستثمارات الجديدة التي تخول امتلاك الأراضي الفلاحية للمستثمرين الأجانب وهو ما يتعارض نصا وروحا مع بنود الدستور ومقتضيات الأمن القومي الاقتصادي التونسي . والمرجو على ضوء ما سبق ذكره أن يتبنى المجلس التأسيسي هذا الملف بكافة أبعاده السياسية والأمنية والإستراتيجية والاقتصادية و ان يسعى خاصة الى ملائمة كافة القوانين و المعاهدات و الالتزامات الدولية لتونس مع مقتضيات الدستور التونسي الجديد.مع دعوة الحكومة للتقيد بالتزاماتها بعدم الحسم في مثل هذه القضايا المصيرية خارج اطار الوفاق الوطني و العمل على عرض هذا الملف على الحوار الوطني الإقتصادي المرتقب وكذلك المواعيد التفاوضية المقبلة الهامة مع الاتحاد الأوروبي التي يستحسن أن تتحول الى حوار استراتيجي تونسي أوروبي شامل قائم على رؤية ومقاربة جديدة تراعي مقتضيات المصلحة الوطنية ولا تختزل علاقات الشراكة في أبعاد تجارية وأمنية ضيقة وفقا للمنظور الذي يسعى الجانب الأوروبي لفرضه على تونس وبقية دول جنوب المتوسط . ولا بد من الإشارة الى مضمون الاتفاق الإطاري لبرنامج العمل للشراكة المتقدمة الموقع مع الاتحاد الأوروبي بتاريخ 16 نوفمبر 2012 الذي يخول لتونس أن تحدد أولياتها وخياراتها كما يتيح لها مراجعة البرنامج وملاءمته وفقا لظروفها ، أي أن تونس لن تكون مخلة بالتزاماتها إذا ارتأت أن مصلحتها تقتضي التريث وعدم التسرع بالمضي في توسيع منطقة التجارة الحرة الى القطاعات الخدمية والفلاحية في الظرف الراهن . واعتبارا لأهمية هذا الملف وطابعه المصيري بالنسبة لتونس ، وبالنظر لضخامة المصالح والمبادلات مع الشريك الأوروبي ، قد ترون من المفيد السعى لادراج الموضوع في إطار الحوار الوطني القادم حتى يتسنى التوصل بشأنه الى وفاق وطني يكون أساسا للمفاوضات الإستراتيجية المقبلة مع الاتحاد الأوروبي المنصوص عليها ببرنامج العمل للشراكة المتقدمة. . أحمد بن مصطفى سفير سابق وناشط في المجتمع المدني