ألقى صباح اليوم الجمعة حسين العباسي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل كلمة في افتتاح الندوة الثلاثية حول تفعيل العقد الاجتماعي بحضور رئيس الحكومة مهدي جمعة. وحيا العباسي في مستهل كلمته جمعة وفريقه الحكومي. وقايل العباسي : "نجتمع اليوم في هذا اللقاء الثلاثي، الذي ينتظم برعاية منظمة العمل الدولية، لنبحث في سبل ترجمة ما قرّرناه منذ 14 جانفي 2013، تحت قبة المجلس التأسيسي الوطني، على أرض الواقع، ولنضع سويا المقومات والآليات الأساسية الكفيلة بتفعيل العقد الاجتماعي، بعد أن توفقنا بكثير من العناء، ولكن في إطار التوافق إلى التصديق على دستور جديد للبلاد، والذي جاء، والحقّ يقال، متناغما ومنسجما في جوهره مع المقتضيات الرئيسية التي نصّ عليها العقد الاجتماعي، حيث تطرّق إلى مختلف الجوانب الحقوقية المتعلقة بالشغل، وهو ما من شانه أن يساعد على إحياء المسألة الاجتماعية في تونس على قاعدة الاستحقاقات التي نادت بها ثورة الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية." وأضاف : "كم كنّا نأمل لو استجاب المجلس الوطني التأسيسي وَقَبِلَ بمشروعنا الداعي إلى دسترة المجلس الوطني للحوار الاجتماعي كآلية من بين الآليات الدستورية لتنظيم العلاقات الشغلية في بلادنا على أسس كفيلة بتثبيت المقومات الأساسية للمقاربة الحقوقية والنهوض بقيمة العمل بما لا يدع مجالا للتأويل والتلاعب بمصالح هذا الطرف أو ذاك، وبما يقلّص من حالات التنازع والصراع المدمرة للقدرة التنافسية وللقدرة الشرائية وللكرامة الانسانية، وبما ينمي الثقة ويرسخ تقاليد الحوكمة التشاركية وروح المسؤولية المجتمعية داخل المنشأة". ودعا العباسي بالمناسبة إلى ضرورة التعجيل في استصدار قانون ينظّم هذه الآلية التي أقرّها العقد الاجتماعي، موضحا : " لقد أصبحنا اليوم على يقين بأهمية وجود مثل هذه الآلية لمأسسة الحوار الاجتماعي حتى يكون مقوما حقيقيا من مقومات التنمية المستدامة وسندا فعليا لإنتاج الميزات التفاضلية الضرورية لخلق القيمة المضافة، وأداة لاستباق النزاعات الشغلية، والقانون سينظم العقد الاجتماعي ويضبط مهامه وصلاحياته وتركيبته وتراتيب سيره حتى نجعل منه وسيلة لتطوير منظومة التشريع الاجتماعي في بلادنا وفق روح الدستور الجديد، بما يستجيب لمتطلبات التنمية وبما يوفّر شروط العمل اللائق واستدامة المؤسّسة، وهو القانون الذي أوشكنا على الانتهاء من صياغة مشروعه ونأمل أن يكون جاهزا في أقرب الآجال لإحالته على الجهات المعنية". واعتبر العباسي انّ الحوكمة التشاركية أصبحت في عصرنا اليوم مفتاح النفاذ إلى الاستدامة والسبيل الأسلم لاكتساب مقومات الصمود والندية أمام المنافسة، كما أصبح ينظر إليها كصمام أمان لتجنّب الصراعات التي عادة ما تحرّكها إرادة التهميش والإقصاء وغياب إرادة الحوار والتشاور والتوافق. ومن جهة أخرى، قال : "لذلك نعتقد أن بقاء الحوار والتفاوض خارج محيط المؤسّسة سوف يمنع هذه الأخيرة بمكوناتها من الانخراط في مساراتهما، كما سوف يفسح أمامها مجال التهرّب من مسؤوليتها والتملص من تبعات أنشطتها وقراراتها التي قد تكون متعارضة مع مقتضيات التنمية المستدامة ومبادئ المسؤولية المجتمعية، بما يعني ذلك من تجاهل لمصالح وانتظارات الأطراف المعنية ومن انتهاك للقانون ولاتفاقيات حسن السلوك الدولية ولمبادئ الشفافية والمساءلة والمحاسبة وحقوق الإنسان عموما...وبناء عليه فإنه من الجدير توجيه اهتمامنا مستقبلا، حكومة وشركاء اجتماعيين، إلى تفعيل الحوار والتفاوض داخل المؤسّسة من خلال تقنين شروط ممارستهما وضبط الإجراءات الواجب اتخاذها في حالة عدم التقيّد بمقتضياتهما. ومن ناحتنا فإننا لن ندّخر أي جهد للإيفاء بالتزاماتنا وللتقيّد بشروط ونتائج الحوار وفق ما يقتضيه القانون". وذكّر العباسي بأن صياغة الدستور والمصادقة عليه لا تجد دلالتها الفعلية، إلاّ بترجمة مقتضياته على أرض الواقع، مضيفا : "وفعلا فقد تطرّق الدستور الجديد إلى مختلف الجوانب التشريعية المتعلقة بعالم الشغل، وبكثير من الوضوح والشمولية، وهو ما سييسّر على جميع الشركاء مهمّة تنفيل تلك الجوانب وتفعيل ما تضمنته من حقوق ومن واجبات ومن مقتضيات. إن الحرص على تفعيل الحوار الاجتماعي على قاعدة ما ورد بالعقد الاجتماعي، وعلى مختلف المستويات، هو الذي سيحدّد استعدادنا وإرادتنا ووعينا باستبطان المقاربة التشاركية كسبيل للإقلاع الاقتصادي والرقي الاجتماعي". ويذكر أنّ نصّ العقد الاجتماعي الممضى يوم 14 جانفي 2013 ينصّ على وجوب مراجعة منوال التنمية مراجعة جذرية حتى نعطيه عمقا يحقّق العدالة والإنصاف، مبينا أنه آن الأوان لمباشرة هذه المهمّة التي تمثّل المدخل الرئيسي لكلّ عملية إصلاح اقتصادي واجتماعي. وقال العباسي : "لقد تبيّن أن ضعف النجاعة في إحراز نتائج أو مكاسب مثمرة إنما يعود في جوهره إلى منوال التنمية النيولبرالي المعتمد في بلادنا منذ منتصف الثمانينات والذي همّش المسألة الاجتماعية، وعمّقت خياراته المجحفة شتى أشكال الحيف الاجتماعي والتفاوت الجهوي والقطاعي....إنّ الخروج من الأزمة الخانقة التي أضحى عليها اقتصادنا الوطني يتطلّب من الجميع التحلي بروح التضحية والعطاء، فالبلاد في حاجة إلى الاستثمار والمستثمرين التونسيين قبل الأجانب للحدّ من التفاوت بين الجهات والتقليص من عبء البطالة والفقر، كما هي في حاجة إلى تثمين قيمة العمل وإلى مزيد البذل والعطاء للنهوض بالانتاجية وتطوير المردودية الاقتصادية والمقدرة التنافسية وهي في حاجة أيضا إلى التحلّي بروح المواطنة في مجال الاستخلاص الجبائي والمحافظة على نظافة المحيط، والتقيد بحسن السلوك وبمقتضيات القانون من جميع المواطنين". كما أكّد أنّ "تحديث أساليب الحوار والمفاوضة وتوسيع مجالات وتنمية قدرات الأطراف المباشرة له على مختلف المستويات، أصبحت من المهام المتأكدة والعاجلة حتى نرتقي به من المفهوم الحرفي الضيق إلى المفهوم المجتمعي الأشمل الذي يجعل من العمل اللائق الهدف الأسمى للمؤسّسة باعتباره الكافل الأساسي للقيمة المضافة والميزات التفاضلية الضرورية لتنمية القدرة التنافسية للمؤسّسة ولتأمين ديمومتها وديمومة واستقرار الشغل كمقوم من مقومات الحرية والكرامة الإنسانية". وفي نفس السياق، قال : "إن التقارب الذي نسجّله على مرّ الأيام بين منظمتنا وشريكنا الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والذي ترسّخ في ظلّ تجربة الرباعي الراعي للحوار، يجعلنا متفائلين بمستقبل الحوار الاجتماعي في بلادنا، خاصة بعد ما تبيّن لنا جميعا جدوى ونجاعة التمشي التوافقي في تذليل الصعوبات مهما كبرت، وفي تجاوز الخلافات مهما استعصت. فالحوار الناجع والمفيد لا يؤمّن بمنطق الكل أو لا شيء بل هو سعي دؤوب لتقريب الرؤى والتوفيق بين المصالح من أجل الكسب المشترك...وكما لا يخفاكم فإنّ فلسفة التعاقد الاجتماعي تفترض من الأطراف المتعاقدة جملة من الشروط وفي مقدّمتها التمثيلية وحسن النية والاعتراف المتبادل والتحلي بالشفافية في التعاطي مع الأطراف المقابلة وخاصة فيما يتعلّق بالنفاذ إلى المعلومة والالتزام بالتعهّدات". وفي نهاية كلمته، قال العباسي : "لقد أوشكنا على الانتهاء من تشكيل اللجان الفرعية التي ستباشر مهمّة تفعيل العقد الاجتماعي في محاوره الخمسة والتي تتعلّق بالخصوص بإجراءات مأسسته وبالنمو الاقتصادي والتنمية الجهوية والتكوين المهني والحماية الاجتماعية والعلاقات الشغلية، وهو ما يفترض الاستعداد من الآن لإحالة الملفات إلى كلّ منها بحسب الاختصاص بغاية تدراسها وصياغة مذكرات ومشاريع قوانين بشأنها كي ترفع إلى الجهات المعنية، ونحن على يقين من أن هذه اللجان ستجد لدى الحكومة الحالية كلّ ما تستحقّ من مساندة ودعم بما يساعدها على التقدّم في أعمالها، وبما يوفّر لها أسباب النجاح".